|
| السيرة النبوية المطهرة | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
ابو مسلم عضز فعال
عدد الرسائل : 51 تاريخ التسجيل : 03/12/2008
| موضوع: السيرة النبوية المطهرة الخميس مارس 25, 2010 8:31 pm | |
| الجزء الأول بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ( [آل عمران: 102]. )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( [النساء: 1] )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ` يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب: 70-71] يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى، أما بعد: فإن دراسة الهدي النبوي أمر له أهميته لكل مسلم، فهو يحقق عدة أهداف من أهمها: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال معرفة شخصيته وأعماله وأقواله وتقريراته، وتكسب المسلم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وتنميها وتباركها، ويتعرف على حياة الصحابة الكرام الذين جاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتدعوه تلك الدراسة لمحبتهم والسير على نهجهم واتباع سبيلهم، كما أن السيرة النبوية توضح للمسلم حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، بدقائقها وتفاصيلها, منذ ولادته وحتى موته، مرورًا بطفولته وشبابه ودعوته وجهاده وصبره، وانتصاره على عدوه، وتظهر بوضوح أنه كان زوجًا وأبًا وقائدًا ومحاربًا، وحاكمًا، وسياسيًا ومربيًا وداعية وزاهدًا وقاضيًا، وعلى هذا فكل مسلم يجد بغيته فيها( ) فالداعية يجد له في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أساليب الدعوة، ومراحلها المتسلسلة، ويتعرف على الوسائل المناسبة لكل مرحلة من مراحلها، فيستفيد منها في اتصاله بالناس ودعوتهم للإسلام، ويستشعر الجهد العظيم الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل إعلاء كلمة الله، وكيفية التصرف أمام العوائق والعقبات، والصعوبات وما هو الموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن؟ ويجد المربي في سيرته صلى الله عليه وسلم دروسًا نبوية في التربية والتأثير على الناس بشكل عام, وعلى أصحابه الذين رباهم على يده وكلأهم بعنايته، فأخرج منهم جيلاً قرآنيًا فريدًا، وكوَّن منهم أمة هي خير أمة أخرجت للناس, تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وأقام بهم دولة نشرت العدل في مشارق الأرض ومغاربها، ويجد القائد المحارب في سيرته صلى الله عليه وسلم نظامًا محكمًا، ومنهجًا دقيقًا في فنون قيادة الجيوش والقبائل والشعوب والأمة، فيجد نماذج في التخطيط واضحة، ودقة في التنفيذ بينة, وحرصًا على تجسيد مبادئ العدل وإقامة قواعد الشورى بين الجند والأمراء والراعي والرعية، ويتعلم منها السياسي كيف كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع أشد خصومه السياسيين المنحرفين، كرئيس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر والبغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف كان يحوك المؤامرات، وينشر الإشاعات التي تسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لإضعافه وتنفير الناس منه، وكيف عامله صلى الله عليه وسلم ، وصبر عليه وعلى حقده, حتى ظهرت حقيقته للناس فنبذوه جميعًا حتى أقرب الناس له وكرهوه والتفوا حول قيادة النبي صلى الله عليه وسلم. ويجد العلماء فيها ما يعينهم على فهم كتاب الله تعالى؛ لأنها هي المفسرة للقرآن الكريم في الجانب العملي، ففيها أسباب النزول، وتفسير لكثير من الآيات فتعينهم على فهمها, والاستنباط منها, ومعايشة أحداثها، فيستخرجون أحكامها الشرعية، وأصول السياسة الشرعية، ويحصلون منها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وغيرها من العلوم، وبذلك يتذوقون روح الإسلام ومقاصده السامية، ويجد فيها الزهاد معاني الزهد وحقيقته ومقصده، ويستقي منها التجار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها، ويتعلم منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات، فتقوى عزائمهم على السير في طريق دعوة الإسلام وتعظم ثقتهم بالله عز وجل، ويوقنوا أن العاقبة للمتقين( ). وتتعلم منها الأمة الآداب الرفيعة، والأخلاق الحميدة، والعقائد السليمة، والعبادة الصحيحة، وسمو الأخلاق، وطهارة القلب، وحب الجهاد في سبيل الله, وطلب الشهادة في سبيله؛ ولهذا قال علي بن الحسن: "كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نُعلَّم السورة من القرآن" سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت عمي الزهري يقول: "في علم المغازي علم الآخرة والدنيا"( ). وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: "كان أبي يعلمنا مغازي (1/4) رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدها علينا ويقول هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها" ( ). إن دراسة الهدي النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة، يساعد العلماء والقادة والفقهاء والحكام على معرفة الطريق إلى عز الإسلام والمسلمين, من خلال معرفة عوامل النهوض، وأسباب السقوط، ويتعرفون على فقه النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأفراد وبناء الجماعة المسلمة، وإحياء المجتمع، وإقامة الدولة، فيرى المسلم حركةَ النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة, والمراحل التي مر بها وقدرته على مواجهة أساليب المشركين في محاربة الدعوة، وتخطيطه الدقيق في الهجرة إلى الحبشة، ومحاولته إقناع أهل الطائف بالدعوة، وعرضه لها على القبائل في المواسم، وتدرُّجه في دعوة الأنصار ثم هجرته المباركة إلى المدينة. إن من تأمل حادثة الهجرة، ورأى دقة التخطيط ودقة التنفيذ من ابتدائها إلى انتهائها, ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها, يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قائم، وأن التخطيط جزء من السنة وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم. إن المسلم يتعلم من المنهاج النبوي كل فنون إدارة الصراع والبراعة في إدارة كل مرحلة وفي الانتقال من مستوى إلى آخر, وكيف واجه القوى المضادة من اليهود والمنافقين والكفار والنصارى, وكيف تغلب عليها كلها بسبب توفيق الله تعالى والالتزام بشروط النصر وأسبابه التي أرشد إليها المولى عز وجل في كتابه الكريم. إن قناعتي الراسخة في التمكين لهذه الأمة وإعادة مجدها وعزتها وتحكيم شرع ربها منوط بمتابعة الهدي النبوي, قال تعالى: ( قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) [النور:54]. (1/5) فقد بينت الآية الكريمة أن طريق التمكين في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاءت الآيات التي بعدها تتحدث عن التمكين وتوضح شروطه قال تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ` وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[النور:55-56]. وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بتحقيق شروط التمكين، فحققوا الإيمان بكل معانيه وكافة أركانه، ومارسوا العمل الصالح بكل أنواعه وحرصوا على كل أنواع الخير وصنوف البر، وعبدوا الله عبودية شاملة في كافة شؤون حياتهم، وحاربوا الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه، وأخذوا بأسباب التمكين المادية والمعنوية على مستوى الأفراد والجماعة, حتى أقاموا دولتهم في المدينة؛ ومن ثم نشروا دين الله بين الشعوب والأمم. إن تأخر المسلمين اليوم عن القيادة العالمية لشعوب الأرض نتيجة منطقية لقوم نسوا رسالتهم، وحطوا من مكانتها، وشابوا معدنها بركام هائل من الأوهام في مجال العلم والعمل على حد سواء، وأهملوا السنن الربانية، وظنوا أن التمكين قد يكون بالأماني والأحلام. إن هذا الضعف الإيماني والجفاف الروحي، والتخبط الفكري والقلق النفسي، والشتات الذهني، والانحطاط الخلقي الذي أصاب المسلمين بسبب الفجوة الكبيرة التي حدثت بين الأمة والقرآن الكريم والهدي النبوي الشريف، وعصر الخلفاء الراشدين، والنقاط المشرقة المضيئة في تاريخنا المجيد. (1/6) أما ترى معي ظهور الكثير من المتحدثين باسم الإسلام, وهم بعيدون كل البعد عن القرآن الكريم والهدي النبوي، وسيرة الخلفاء الراشدين، وأدخلوا في خطابهم مصطلحات جديدة ومفاهيم مائعة نتيجة الهزيمة النفسية أمام الحضارة الغربية، وأصبحوا يتلاعبون بالألفاظ ويَلْوُونها، ويتحدثون الساعات الطوال، ويدبجون المقالات، ويكتبون الكتب في فلسفة الحياة والكون والإنسان، ومناهج التغيير ولا نكاد نلمس في حديثهم أو نلاحظ في مقالاتهم عمقا في فهم فقه التمكين، وسنن الله في تغير الشعوب وبناء الدول من خلال القرآن الكريم والمنهاج النبوي الشريف أو دعوة الأنبياء والمرسلين لشعوبهم أو تقصيًّا لتاريخنا المجيد، فيخرجوا لنا، عوامل النهوض عند نور الدين محمود، أو صلاح الدين، أو يوسف بن تاشفين، أو محمود الغزنوي، أو محمد الفاتح ممن ساروا على الهدي النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة, بل يستدلون ببعض الساسة أو المفكرين والمثقفين من الشرق أو الغرب ممن هم أبعد الناس عن الوحي السماوي والمنهج الرباني. وأنا لست ممن يعارض الاستفادة من تجارب الشعوب والأمم فالحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنَّى وجدها، ولكنني ضد الذين يجهلون أو يتجاهلون المنهاج الرباني، وينسون ذاكرة الأمة التاريخية المليئة بالدروس والعبر والعظات، ثم بعد ذلك يحرصون على أن يتصدروا قيادة المسلمين بأهوائهم وآرائهم البعيدة عن نور القرآن الكريم والهدي النبوي الشريف. ومن أجمل ما قاله ابن القيم: والله ما خوفي من الذنوب فإنها لعلى طريق العفو والغفران لكنما أخشى انسلاخ القلب عن تحكيم هذا الوحي والقرآن ورضا بآراء الرجال وخرصها لا كان ذاك بمنة الرحمن (1/7) إننا في أشد الحاجة لمعرفة المنهاج النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة، ومعرفة سنن الله في الشعوب والأمم والدول، وكيف تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم عندما انطلق بدعوة الله في دنيا الناس حتى نلتمس من هديه صلى الله عليه وسلم الطريق الصحيح في دعوتنا والتمكين لديننا، ونقيم بنياننا على منهجية سليمة مستمدة أصولها وفروعها من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]. فقد كان فقه النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأمة وإقامة الدولة شاملاً ومتكاملاً ومتوازنًا, وخاضعًا لسنن الله في المجتمعات وإحياء الشعوب وبناء الدول، فتعامل صلى الله عليه وسلم مع هذه السنن في غاية الحكمة وقمة الذكاء، كسنة التدرج، والتدافع، والابتلاء، والأخذ بالأسباب، وتغيير النفوس، وغرس صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه المنهج الرباني وما يحمله من مفاهيم وقيم وعقائد وتصورات صحيحة عن الله والإنسان، والكون والحياة والجنة والنار، والقضاء والقدر، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتأثرون بمنهجه في التربية غاية التأثر ويحرصون كل الحرص على الالتزام بتوجيهاته فكان الغائب إذا حضر من غيبته يسأل أصحابه عما رأوا من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وعن تعليمه وإرشاده وعما نزل من الوحي حال غيبته، وكانوا يتبعون خطى الرسول صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة، ولم يكونوا يقصرون هذا الاستقصاء على أنفسهم، بل كانوا يلقنونه لأبنائهم ومن حولهم. (1/ ففي هذا الكتاب تقصٍّ لأحداث السيرة، فيتحدث عن أحوال العالم قبل البعثة، والحضارات السائدة والأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخلقية في زمن البعثة، وعن الأحداث المهمة قبل المولد النبوي، وعن نزول الوحي، ومراحل الدعوة، والبناء التصوري والأخلاقي والتعبدي في العهد المكي، وعن أساليب المشركين في محاربة الدعوة، وعن الهجرة إلى الحبشة، ومحنة الطائف، ومنحة الإسراء والمعراج، والطواف على القبائل، ومواكب الخير وطلائع النور من أهل يثرب, والهجرة النبوية، ويقف الكتاب بالقارئ على الأحداث مستخرجا منها الدروس والعبر والفوائد لكي يستفيد منها المسلمون في عالمنا المعاصر. (1/9) وتحدث عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم منذ دخوله المدينة إلى وفاته, وبين فقه النبي صلى الله عليه وسلم في إرساء دعائم المجتمع وتربيته ووسائله في بناء الدولة، ومحاربة أعدائها في الداخل والخارج، فيقف الباحث على فقه النبي صلى الله عليه وسلم في سياسة المجتمع ومعاهداته مع أهل الكتاب التي سجلت في الوثيقة, وحركته الجهادية، ومعالجته الاقتصادية والارتقاء بالمسلم نحو مفاهيم هذا الدين, الذي جاء لإنقاذ البشرية من دياجير الظلام، وعبادة الأوثان، وانحرافها عن شريعة الحكيم المتعال، وقد حاولت أن أعالج مشكلة اختزال السيرة النبوية في أذهان الكثير من أبناء الأمة، ففي العقود الماضية ظهرت دراسات رائعة في مجال السيرة النبوية، وكتب الله لها قبولاً وانتشارًا، كالرحيق المختوم، لصفي الدين المباركفوري، وفقه السيرة للغزالي، وفقه السيرة النبوية للبوطي، والسيرة النبوية لأبي الحسن الندوي، وكانت هذه الدراسات مختصرة، ولم تكن شاملة لأحداث السيرة، واعتمدت بعض الجامعات هذه الكتب، وظن بعض طلابها أن من استوعب هذه الكتب فقد أحاط بالسيرة النبوية، وهذا - في رأيي-خطأ فادح وخطير في حق السيرة النبوية المشرفة، وقد تسرب هذا الأمر إلى بعض أئمة المساجد وبعض قيادات الحركات الإسلامية، وانعكس ذلك على الأتباع فأحدث تصورًا ناقصًا للسيرة عند كثير من الناس، وقد حذر الشيخ محمد الغزالي من خطورة هذا التصور في نهاية كتابه فقه السيرة فقال: قد تظن أنك درست حياة محمد صلى الله عليه وسلم إذا تابعت تاريخه من المولد إلى الوفاة، وهذا خطأ بالغ. إنك لن تفقه السيرة حقًّا إلا إذا درست القرآن الكريم والسنة المطهرة، وبقدر ما تنال من ذلك، تكون صلتك بنبي الإسلام( ). (1/10) ففي هذه الدراسة يجد القارئ تسليط الأضواء على البعد القرآني الذي له علاقة بالسيرة النبوية، كغزوة بدر، وأحد، والأحزاب، وبني النضير، وصلح الحديبية، وغزوة تبوك، فبيَّن الباحث الدروس والعبر، وسنن الله في النصر والهزيمة، وكيف عالج القرآن الكريم أمراض النفوس من خلال الأحداث والوقائع؟ إن السيرة النبوية تعطي كل جيل ما يفيده في مسيرة الحياة، وهي صالحةٌ لكل زمان ومكان ومُصلِحةٌ كذلك. لقد عشت سنين من عمري في البحث في القرآن الكريم والسيرة النبوية, فكانت من أفضل أيام حياتي، فنسيت أثناء البحث غربتي وهجرتي، وتفاعلت مع الدرر والكنوز والنفائس الموجودة في بطون المراجع والمصادر، فعملت على جمعها وترتيبها وتنسيقها وتنظيمها حتى تكون في متناول أبناء أمتي العظيمة، وقد لاحظت التفاوت في ذكر الدروس والعبر والفوائد والأحداث بين كتاب السيرة قديما وحديثا، فأحيانًا يذكر ابن هشام ما لم يذكره الذهبي، ويذكر ابن كثير ما لم يذكره أصحاب السنن هذا قديما، أما حديثا فقد ذكر السباعي ما لم يذكره الغزالي، وذكر البوطي ما لم يذكره الغضبان، وهكذا. ووجدت في التفسير، وشروح الحديث، كفتح الباري، وشرح النووي، وكتب الفقهاء ما لم يذكره كُتَّاب السيرة قديمًا ولا حديثًا؛ فأكرمني الله تعالى بجمع تلك الدروس والعبر والفوائد، ونظمتها في عقد جميل يسهل الاطلاع عليه، ويساعد القارئ على تناول تلك الثمار اليانعة بكل سهولة. (1/11) إن في هذا الكتاب حصيلة علمية وأفكار عملية جمعت من مئات المراجع والمصادر، وقد أثرى هذا الجهد بالحوار والنقاش والندوات، فأفاد بعضهم في الإشارة إلى بعض المراجع والمصادر النادرة وعمل على توفيرها، والبعض الآخر أرشد إلى ضرورة التركيز على السنن والقوانين التي تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم في حركته المباركة، كقانون الفرصة في فتح خيبر، وفتح مكة، وأشار البعض إلى أهمية ربط السيرة التاريخية بالسيرة السلوكية, والسيرة المعبر عنها بحديث شريف أو فعل نبوي والسيرة كما يقررها القرآن الكريم- ببعضها ومزجها في منهجية متناسقة- تمد أبناء الجيل بعلم غزير، وفقه عميق، وعاطفة جياشة، فهي غذاء للروح، وتثقيف للعقول وحياة للقلوب، وصفاء للنفوس. إن السيرة النبوية غنية في كل جانب من الجوانب التي تحتاجها مسيرة الدعوة الإسلامية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن ترك سوابق كثيرة لمن يريد أن يقتدي به في الدعوة والتربية والثقافة والتعليم والجهاد، وكافة شؤون الحياة، كما أن التعمق في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يساعد القارئ على التعرف على الرصيد الخلقي الكبير الذي تميز به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل البشر ويتعرف على صفاته الحميدة التي عاش بها في دنيا الناس فيرى من خلال سيرته مصداق قول حسان بن ثابت t عندما قال: وأجمل منك لم تر قط عيني وأفضل منك لم تلد النساء خُلقت مبرءا من كل عيبٍ كأنك قد خلقت كما تشاء هذا ولا أدعي أني أتيت بما لم تستطعه الأوائل، فشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبير، وتوضيح بعض معالم سيرته يحتاج إلى نفس أرق، وفقه أدقّ وذكاء أكبر وإيمان أعمق، كما أنني لا أدعي لعملي هذا العصمة أو الكمال، فهذا شأن الرسل والأنبياء، ومن ظن أنه قد أحاط بالعلم فقد جهل نفسه، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 85]. (1/12) فالعلم بحر لا شاطئ له وما أصدق الشاعر إذ يقول: وقل لمن يدّعي في العلم فلسفة حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء يقول الثعالبي: لا يكتب أحد كتابا فيبيت عنده ليلة إلا أحب في غيرها أن يزيد فيه أو ينقص منه، هذا في ليلة، فكيف في سنين معدودة؟ وقال العماد الأصبهاني: إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابًا في يومه إلا قال في غده، لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر.. وأخيرًا أرجو من الله تعالى أن يكون عملاً لوجهه خالصًا, ولعباده نافعًا, وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكافة ما يملكون من أجل إتمام هذا الكتاب قال الشاعر: أسير خلف ركاب القوم ذا عرج مؤملا جبر ما لاقيت من عوج فإن لحقت بهم من بعد ما سبقوا فكم لرب السماء في الناس من فرج وإن ظللت بقفر الأرض منقطعا فما على أعرج في ذاك من حرج سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورضوانه علي محمد الصلابي 18رجب 1421هـ 16 أكتوبر 2000م الفصل الأول أهم الأحداث التاريخية من قبل البعثة حتى نزول الوحي المبحث الأول الحضارات السائدة قبل البعثة ودياناتها أولاً: الإمبراطورية الرومانية: كانت الإمبراطورية الرومانية الشرقية تعرف بالإمبراطورية البيزنطية، فكانت تحكم دول اليونان والبلقان وآسيا وسوريا وفلسطين وحوض البحر المتوسط بأسره, ومصر وكل إفريقيا الشمالية، وكانت عاصمتها القسطنطينية، وكانت دولة ظالمة مارست الظلم والجور والتعسف على الشعوب التي حكمتها، وضاعفت عليها الضرائب، وكثرت الاضطرابات والثورات، وكانت حياتهم العامة قائمة على كل أنواع اللهو واللعب والطرب والترف. (1/13) أما مصر فكانت عرضة للاضطهاد الديني والاستبداد السياسي، واتخذها البيزنطيون شاة حلوبا يحسنون حلبها، ويسيئون علفها. وأما سوريا فقد كثرت فيهم المظالم والرقيق، ولا يعتمدون في قيادة الشعب إلا على القوة والقهر الشديد، وكان الحكم حكم الغرباء، الذي لا يشعر بأي عطف على الشعب المحكوم، وكثيرا ما كان السوريون يبيعون أبناءهم ليوفوا ما كان عليهم من ديون( ). كان المجتمع الروماني مليئا بالتناقض والاضطرابات، وقد جاء تصويره في كتاب "الحضارة ماضيها وحاضرها" كالآتي: "كان هناك تناقض هائل في الحياة الاجتماعية للبيزنطيين، فقد رسخت النزعة الدينية في أذهانهم، وعمت الرهبانية، وشاعت في طول البلاد وعرضها، وأصبح الرجل العادي في البلاد يتدخل في الأبحاث الدينية العميقة، والجدل البيزنطي، ويتشاغل بها، كما طبعت الحياة العادية العامة بطابع المذهب الباطني، ولكن نرى هؤلاء - في جانب آخر- حريصين أشد الحرص على كل نوع من أنواع اللهو واللعب، والطرب والترف، فقد كانت هناك ميادين رياضية واسعة تتسع لجلوس ثمانين ألف شخص، يتفرجون فيها على مصارعات بين الرجال والرجال أحيانًا، وبين الرجال والسباع أحيانًا أخرى، وكانوا يقسمون الجماهير في لونين: لون أزرق ولون أخضر، لقد كانوا يحبون الجمال، ويعشقون العنف والهمجية، وكانت ألعابهم دموية ضارية أكثر الأحيان، وكانت عقوبتهم فظيعة تقشعر منها الجلود، وكانت حياة سادتهم وكبرائهم عبارة عن المجون والترف، والمؤامرات والمجاملات الزائدة، والقبائح والعادات السيئة"( ). ثانيًا: الإمبراطورية الفارسية: (1/14) كانت الإمبراطورية الفارسية تعرف بالدولة الفارسية أو الكسروية، وهي أكبر وأعظم من الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وقد كثرت فيها الديانات المنحرفة كالزرادشتية والمانية التي أسسها ماني في أوائل القرن الثالث الميلادي، ثم ظهرت المزْدكية في أوائل القرن الخامس الميلادي التي دعت إلى الإباحية في كل شيء؛ مما أدى إلى انتشار ثورات الفلاحين وتزايد النهابين للقصور فكانوا يقبضون أو يأسرون النساء ويستولون على الأملاك والعقارات فأصبحت الأرض والمزارع والدور كأن لم تسكن من قبل. وكان ملوكهم يحكمون بالوراثة، ويضعون أنفسهم فوق بني آدم، لأنهم يعتبرون أنفسهم من نسل الآلهة، وأصبحت موارد البلاد ملكًا لهؤلاء الملوك يتصرفون فيها ببذخ لا يتصور, ويعيشون عيش البهائم، حتى ترك كثير من المزارعين أعمالهم أو دخلوا الأديرة والمعابد فرارًا من الضرائب والخدمة العسكرية، وكانوا وقودًا حقيرًا في حروب طاحنة مدمرة قامت في فترات من التاريخ دامت سنين طوال بين الفرس والروم لا مصلحة للشعوب فيها إلا تنفيذ نزوات ورغبات الملوك( ). ثالثًا: الهند: (1/15) اتفقت كلمة المؤرخين على أن أحط أدوارها ديانة وخلقا واجتماعا وسياسة - ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس الميلادي، فانتشرت الخلاعة حتى في المعابد؛ لأن الدين أعطاها لونًا من القدس والتعبد، وكانت المرأة لا قيمة لها ولا عصمة، وانتشرت عادة إحراق المرأة المتوفى زوجها، وامتازت الهند عن أقطار العالم بالتفاوت الفاحش بين طبقات الشعب، وكان ذلك تابعا لقانون مدني سياسي ديني وضعه المشرعون الهنديون الذين كانت لهم صفة دينية، وأصبح هو القانون العام في المجتمع ودستور حياتهم، وكانت الهند في حالة فوضى وتمزق, انتشرت فيها الإمارات التي اندلعت بينها الحروب الطاحنة، وكانت بعيدة عن أحداث عالمها في عزلة واضحة يسيطر عليها التزمت والتطرف في العادات والتقاليد, والتفاوت الطبقي والتعصب الدموي والسلالي، وقد تحدث مؤرخ هندوكي- أستاذ للتاريخ في إحدى جامعات الهند- عن عصر سابق لدخول الإسلام في الهند فقال: "كان أهل الهند منقطعين عن الدنيا، منطوين على أنفسهم، لا خبرة عندهم بالأوضاع العالمية، وهذا الجهل أضعف موقفهم، فنشأ فيهم الجمود، وعمت فيهم أمارات الانحطاط والتدهور، كان الأدب في هذه الفترة بلا روح، وهكذا كان الشأن في الفن المعماري، والتصوير، والفنون الجميلة الأخرى"( ). "وكان المجتمع الهندي راكدًا جامدًا، كان هناك تفاوت عظيم بين الطبقات وتمييز معيب بين أسرة وأسرة، وكانوا لا يسمحون بزواج الأيامى، ويشددون على أنفسهم في أمور الطعام والشراب، أما المنبوذون فكانوا يعيشون مضطرين خارج بلدهم ومدينتهم"( ). كان تقسيم سكان الهند إلى أربع طبقات: 1- طبقة الكهنة ورجال الدين، وهم (البراهمة). 2- ورجال الحرب والجندية وهم (شترى). 3- ورجال الفلاحة والتجارة وهم (ويش). 4- ورجال الخدمة وهم (شودر) وهم أحط الطبقات، فقد خلقهم خالق الكون من أرجله -كما يزعمون-، وليس لهم إلا خدمة هذه الطبقات الثلاث وإراحتها. (1/16) وقد منح هذا القانون البراهمة مركزا ومكانة لا يشاركهم فيها أحد، والبرهمي رجل مغفور له ولو أباد العوالم الثلاثة بذنوبه وأعماله، ولا يجوز فرض جباية عليه، ولا يعاقب بالقتل في حال من الأحوال، أما (شودر) فليس لهم أن يقتنوا مالا، أو يدخروا كنزا، أو يجالسوا برهميًّا، أو يمسوه بيدهم، أو يتعلموا الكتب المقدسة( ). رابعًا: أحوال العالم الدينية قبل البعثة المحمدية: كانت الإنسانية قبل بزوغ فجر الإسلام العظيم تعيش مرحلة من أحط مراحل التاريخ البشري في شؤونها الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتعاني من فوضى عامة في كافة شؤون حياتها، وهيمن المنهج الجاهلي على العقائد والأفكار والتصورات والنفوس، وأصبح الجهل والهوى والانحلال والفجور، والتجبر والتعسف من أبرز ملامح المنهج الجاهلي المهيمن على دنيا الناس( ). وضاع تأثير الديانات السماوية على الحياة أو كاد بسبب ما أصابها من التبديل والتحريف والتغيير الذي جعلها تفقد أهميتها باعتبارها رسالة الله إلى خلقه، وانشغل أهلها بالصراعات العقدية النظرية التي كان سببها دخول الأفكار البشرية، والتصورات الفاسدة على هذه الأديان، حتى أدى إلى الحروب الطاحنة بينهم، ومن بقي منهم لم يحرف ولم يبدل قليل نادر, وآثر الابتعاد عن دنيا الناس ودخل في حياة الخلوة والعزلة طمعًا في النجاة بنفسه يأسًا من الإصلاح، ووصل الفساد إلى جميع الأصناف والأجناس البشرية، ودخل في جميع المجالات بلا استثناء. ففي الجانب الديني تجد الناس إما أن ارتدوا عن الدين أو خرجوا منه أو لم يدخلوا فيه أصلا، أو وقعوا في تحريف الديانات السماوية وتبديلها، وأما في الجانب التشريعي، فإن الناس نبذوا شريعة الله وراءهم ظهريًا, واخترعوا من عند أنفسهم قوانين، وشرائع لم يأذن بها الله, تصطدم مع العقل وتختلف مع الفطرة. (1/17) وتزعم هذا الفساد زعماء الشعوب والأمم من القادة والرهبان والقساوسة والدهاقين والملوك، وأصبح العالم في ظلام دامس وليل بهيم, وانحراف عظيم عن منهج الله سبحانه وتعالى. فاليهودية: أصبحت مجموعة من الطقوس والتقاليد لا روح فيها ولا حياة, وتأثرت بعقائد الأمم التي جاورتها واحتكت بها، والتي وقعت تحت سيطرتها فأخذت كثيرا من عاداتها وتقاليدها الوثنية الجاهلية، وقد اعترف بذلك مؤرخو اليهود( ) فقد جاء في دائرة المعارف اليهودية: "إن سخط الأنبياء وغضبهم على عبادة الأوثان يدل على أن عبادة الأوثان والآلهة، كانت قد تسربت إلى نفوس الإسرائيليين، ولم تستأصل شأفتها إلى أيام رجوعهم من الجلاء والنفي في بابل، وقد اعتقدوا معتقدات خرافية وشركية. إن التلمود أيضًا يشهد بأن الوثنية كانت فيها جاذبية خاصة لليهود"( ). إن المجتمع اليهودي قبل البعثة المحمدية قد وصل إلى الانحطاط العقلي وفساد الذوق الديني، فإذا طالعت تلمود بابل الذي يبالغ اليهود في تقديسه, والذي كان متداولاً بين اليهود في القرن السادس المسيحي، تجد فيه نماذج غريبة من خفة العقل وسخف القول، والاجتراء على الله، والعبث بالحقائق والتلاعب بالدين والعقل( ). أما المسيحية: فقد امتحنت بتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين واختفى نور التوحيد وإخلاص العبادة لله وراء السحب الكثيفة( )، واندلعت الحروب بين النصارى في الشام والعراق، وبين نصارى مصر حول حقيقة المسيح وطبيعته، وتحولت البيوت والمدارس والكنائس إلى معسكرات متنافسة وظهرت الوثنية في المجتمع المسيحي في مظاهر مختلفة وألوان شتى، فقد جاء في تاريخ المسيحية في ضوء العلم المعاصر: (1/18) "لقد انتهت الوثنية، ولكنها لم تلق إبادة كاملة، بل إنها تغلغلت في النفوس واستمر كل شيء فيها باسم المسيحية وفي ستارها، فالذين تجردوا عن آلهتهم وأبطالهم وتخلوا عنهم أخذوا شهيدًا من شهدائهم ولقبوه بأوصاف الآلهة، ثم صنعوا له تمثالا، وهكذا انتقل هذا الشرك وعبادة الأصنام إلى هؤلاء الشهداء المحليين، ولم ينته هذا القرن حتى عمت فيه عبادة الشهداء والأولياء، وتكونت عقيدة جديدة، وهي أن الأولياء يحملون صفات الألوهية، وصار هؤلاء الأولياء والقديسون خلقا وسيطا بين الله والإنسان يحمل صفة الألوهية على أساس عقائد الأريسيين، وأصبحوا رمزا لقداسة القرون الوسطى وورعها وطهرها، وغيرت أسماء الأعياد الوثنية بأسماء جديدة، حتى تحول في عام 400 ميلادي عيد الشمس القديم إلى عيد ميلاد المسيح"( )، وجاء في دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة: "تغلغل الاعتقاد بأن الإله الواحد مركب من ثلاثة أقانيم في أحشاء حياة العالم المسيحي وفكره، منذ ربع القرن الرابع الأخير، ودامت كعقيدة رسمية مسلَّمة، عليها الاعتماد في جميع أنحاء العالم المسيحي، ولم يرفع الستار عن تطور عقيدة التثليث وسرها إلا في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلادي"( ). لقد اندلعت الحروب بين النصارى وكفَّر بعضهم بعضًا، وقتل بعضهم بعضًا، وانشغل النصارى ببعضهم عن محاربة الفساد وإصلاح الحال ودعوة الأمم إلى ما فيه صلاح البشرية( ). وأما المجوس: فقد عرفوا من قديم الزمان بعبادة العناصر الطبيعية, أعظمها النار، وانتشرت بيوت النار في طول البلاد وعرضها, وعكفوا على عبادتها وبنوا لها معابد وهياكل، وكانت لها آداب وشرائع دقيقة داخل المعابد، أما خارجها فكان أتباعها أحرارًا يسيرون على هواهم لا فرق بينهم وبين من لا دين له. (1/19) ويصف المؤرخ الدنماركي طبقة رؤساء الدين ووظائفهم عند المجوس في كتابه "إيران في عهد الساسانيين" فيقول: "كان واجبًا على هؤلاء الموظفين أن يعبدوا الشمس أربع مرات في اليوم، ويضاف إلى ذلك عبادة القمر والنار والماء، وكانوا مكلفين بأدعية خاصة، عند النوم والانتباه والاغتسال ولبس الزنار والأكل والعطس وحلق الشعر وتقليم الأظافر، وقضاء الحاجة وإيقاد السرج، وكانوا مأمورين بألا يدعوا النار تنطفئ، وألا تمس النار والماء بعضها بعضا، وألا يدعوا المعدن يصدأ لأن المعادن عندهم مقدسة"( ). وكان أهل إيران يستقبلون في صلاتهم النار، وقد حلف (يزدجرد) آخر ملوك الساسانيين - بالشمس مرة وقال: "أحلف بالشمس التي هي الإله الأكبر". وقد دان المجوس بالثنوية في كل عصر وأصبح ذلك شعارًا لهم، فآمنوا بإلهين اثنين، أحدهما النور أو إله الخير والثاني الظلام أو إله الشر( ). أما البوذية: في الهند وآسيا الوسطى، فقد تحولت وثنية تحمل معها الأصنام حيث سارت، وتبني الهياكل، وتنصب تماثيل بوذا حيث حلت ونزلت( ). أما البرهمية: دين الهند الأصلي، فقد امتازت بكثرة المعبودات والآلهة, وقد بلغت أوجها في القرن السادس الميلادي، ولا شك أن الديانتين الهندوكية والبوذية وثنيتان سواء بسواء، لقد كانت الدنيا المعمورة من البحر الأطلسي إلى المحيط الهادي غارقة في الوثنية, وكأنما كانت المسيحية واليهودية والبوذية والبرهمية تتسابق في تعظيم الأوثان وتقديسها، وكانت كخيل رهان تجري في حلبة واحدة. (1/20) وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عموم هذا الفساد لجميع الأجناس وجميع المجالات بلا استثناء فقد قال صلى الله عليه وسلم ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل ما نحلته( ) عبدًا حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم: عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب"( ). والحديث يشير إلى انحراف البشرية في جوانب متعددة كالشرك بالله، ونبذ شريعته وفساد المصلحين من حملة الأديان السماوية وممالأتهم للقوم على ضلالهم( ). *** المبحث الثاني أصول العرب وحضارتهم أولاً: أصول العرب: قسم المؤرخون أصول العرب إلى ثلاثة أقسام بحسب السلالات التي انحدروا( ) منها: 1- العرب البائدة: وهي قبائل عاد، وثمود، والعمالقة، وطَسْم، وجَديس، وأمَيْم، وجُرهم وحضرموت ومن يتصل بهم, وهذه درست معالمها واضمحلت من الوجود قبل الإسلام وكان لهم ملوك امتد ملكهم إلى الشام ومصر( ). 2- العرب العاربة: وهم العرب المنحدرة من صلب يَعْرُب بن يشجُب بن قحطان وتسمى بالعرب القحطانية( ) ويعرفون بعرب الجنوب( ) ومنهم ملوك اليمن، ومملكة معين، وسبأ وحمير( ). (1/21) | |
| | | ابو مسلم عضز فعال
عدد الرسائل : 51 تاريخ التسجيل : 03/12/2008
| موضوع: رد: السيرة النبوية المطهرة الخميس مارس 25, 2010 8:32 pm | |
| 3- العرب العدنانية: نسبة إلى عدنان الذي ينتهي نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام, وهم المعروفون بالعرب المستعربة، أي الذين دخل عليهم دم ليس عربيًّا, ثم تم اندماج بين هذا الدم وبين العرب، وأصبحت اللغة العربية لسان المزيج الجديد. وهؤلاء هم عرب الشمال، موطنهم الأصلي مكة، وهم إسماعيل عليه السلام وأبناؤه, والجراهمة الذين تعلم منهم إسماعيل عليه السلام العربية، وصاهرهم، ونشأ أولاده عربًا مثلهم، ومن أهم ذرية إسماعيل (عدنان) جد النبي صلى الله عليه وسلم الأعلى، ومن عدنان كانت قبائل العرب وبطونها فقد جاء بعد عدنان ابنه معد، ثم نزار، ثم جاء بعده ولداه مُضَر وربيعة. أما ربيعة بن نزار فقد نزل من انحدر من صلبه شرقا، فقامت عبد القيس في البحرين، وحنيفة في اليمامة، وبنو بكر بن وائل ما بين البحرين واليمامة، وعبرت تغلب الفرات فأقامت في أرض الجزيرة بين دجلة والفرات، وسكنت تميم في بادية البصرة( ). أما فرع مضر: فقد نزلت سليم بالقرب من المدينة، وأقامت ثقيف في الطائف، واستوطنت سائر هوازن شرقي مكة، وسكنت أسد شرقي تيماء إلى غربي الكوفة، وسكنت ذُبيان وعَبس من تيماء إلى حوران( ) وتقسيم العرب إلى عدنانية وقحطانية هو ما عليه جمهرة علماء الأنساب وغيرهم من العلماء. ومن العلماء من يرى أن العرب: عدنانية، وقحطانية ينتسبون إلى إسماعيل( ) عليه الصلاة والسلام. وقد ترجم البخاري في صحيحه لذلك فقال: باب نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السلام، وذكر في ذلك حديثًا عن سلمة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم يتناضلون بالسهام، فقال: "ارموا بني إسماعيل، وأنا مع بني فلان" -لأحد الفريقين- فأمسكوا بأيديهم، فقال: "ما لكم؟" قالوا: كيف نرمي وأنت مع بني فلان؟ فقال: "ارموا وأنا معكم كلكم"( ) وفي بعض الروايات "ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا".
قال البخاري: وأسلم بن أَفْصَى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة، يعني: أن خزاعة فرقة ممن كان تمزق من قبائل سبأ حين أرسل الله عليهم سيل العرم( ). ووُلد الرسول صلى الله عليه وسلم من مضر، وقد أخرج البخاري عن كليب بن وائل قال: حدثتني ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت أبي سلمة قال: "قلت لها: أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أكان من مضر؟ فقالت: فممن كان إلا من مضر؟ من بني النضر بن كنانة"( ). وكانت قريش قد انحدرت من كنانة وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة وانقسمت قريش إلى قبائل شتى من أشهرها جمح وسهم وعدي ومخزوم وتيم وزهرة وبطون قصي بن كلاب، وهي عبد الدار بن قصي وأسد بن عبد العزى بن قصي، وعبد مناف بن قصي، وكان من عبد مناف أربع فصائل: عبد شمس ونوفل والمطلب وهاشم. وبيت هاشم هو الذي اصطفى الله منه سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ( ). قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"( ). ثانيًا: حضارات الجزيرة العربية: نشأت من قديم الزمان ببلاد العرب حضارات أصيلة، ومدنيات عريقة من أشهرها:
1- حضارة سبأ باليمن: وقد أشار القرآن الكريم إليها، ففي اليمن استفادوا من مياه الأمطار والسيول التي كانت تضيع في الرمال، وتنحدر إلى البحار، فأقاموا الخزانات والسدود بطرق هندسية متطورة، وأشهر هذه السدود (سد مأرب) واستفادوا بمياهها في الزروع المتنوعة، والحدائق ذات الأشجار الزكية، والثمار الشهية، قال عز شأنه: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ` فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ` ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ) [سبأ: 15-17]. ودل القرآن الكريم على وجود قرى متصلة في الزمن الماضي ما بين اليمن، إلى بلاد الحجاز، إلى بلاد الشام، وأن قوافل التجارة والمسافرين كانوا يخرجون من اليمن إلى بلاد الشام، فلا يعدمون ظلا، ولا ماء، ولا طعاما، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ` فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[سبأ: 18، 19]. 2- حضارة عاد بالأحقاف: وكانوا في شمال حضرموت وهم الذين أرسل الله إليهم نبي الله هودا عليه السلام، وكانوا أصحاب بيوت مشيدة، ومصانع متعددة، وجنات، وزروع وعيون( ) قال تعالى: (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ` إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ `
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ` فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ` وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ` أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ` وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ` وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ` فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ` وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ` أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ` وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الشعراء:123 134]. 3- حضارة ثمود بالحجاز: دل القرآن الكريم على وجود حضارة في بلاد الحِجْر، وأشار إلى ما كانوا يتمتعون به من القدرة على نحت البيوت في الجبال، وعلى ما كان يوجد في بلادهم من عيون وبساتين وزروع( )، قال تعالى: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ` إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ ` إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ` فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ` وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ` أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ ` فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ` وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ` وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ` فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء: 141-150]. وقال فيهم أيضا: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)[الأعراف: 74]. لقد زال كل ذلك من زمن طويل، ولم يبق إلا آثار ورسوم وأطلال، فقد اضمحلت القرى والمدن، وتخربت الدور والقصور، ونضبت العيون، وجفت الأشجار وأصبحت البساتين والزروع أرضا جُرُزًا( ). ***
المبحث الثالث الأحوال الدينية والسياسية والاقتصادية
والاجتماعية والأخلاقية عند العرب أولاً: الحالة الدينية: ابتليت الأمة العربية بتخلف ديني شديد، ووثنية سخيفة لا مثيل لها، وانحرافات خلقية، واجتماعية, وفوضى سياسية، وتشريعية, ومن ثم قل شأنهم وصاروا يعيشون على هامش التاريخ، ولا يتعدون في أحسن الأحوال أن يكونوا تابعين للدولة الفارسية أو الرومانية، وقد امتلأت قلوبهم بتعظيم تراث الآباء والأجداد واتباع ما كانوا عليه مهما يكن فيه من الزيغ والانحراف والضلال ومن ثم عبدوا الأصنام، فكان لكل قبيلة صنم، فكان لهذيل بن مدركة: سواع، ولكلب: ود، ولمذحج: يغوث, ولخيوان: يعوق، ولحمير: نسر، وكانت خزاعة وقريش تعبد إسافًا ونائلة، وكانت مناة على ساحل البحر، تعظمها العرب كافة والأوس والخزرج خاصة، وكانت اللات في ثقيف، وكانت العزى فوق ذات عرق، وكانت أعظم الأصنام عند قريش( ). وإلى جانب هذه الأصنام الرئيسية يوجد عدد لا يحصى كثرة من الأصنام الصغيرة والتي يسهل نقلها في أسفارهم ووضعها في بيوتهم. روى البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العُطاردي قال: "كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا آخر هو أخيرُ منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا جُثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به"( ). وقد حالت هذه الوثنية السخيفة بين العرب, وبين ومعرفة الله وتعظيمه وتوقيره والإيمان به، وباليوم الآخر وإن زعموا أنها لا تعدو أن تكون وسائط بينهم وبين الله، وقد هيمنت هذه الآلهة المزعومة على قلوبهم وأعمالهم وتصرفاتهم، وجميع جوانب حياتهم وضعف توقير الله في نفوسهم قال تعالى: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [الأنعام: 36].
أما البقية الباقية من دين إبراهيم عليه السلام فقد أصابها التحريف، والتغيير والتبديل، فصار الحج موسما للمفاخرة والمنافرة، والمباهاة وانحرفت بقايا المعتقدات الحنيفية عن حقيقتها وألصق بها من الخرافات والأساطير الشيء الكثير. وكان يوجد بعض الأفراد من الحنفاء الذين يرفضون عبادة الأصنام, وما يتعلق بها من الأحكام والنحائر وغيرها، ومن هؤلاء زيد بن عمرو بن نفيل، وكان لا يذبح للأنصاب، ولا يأكل الميتة والدم، وكان يقول: أربًّا واحدًا أم ألفَ رب؟؟ أدين إذا تقسِّمت الأمورُ؟
عزلتُ اللات والعزى جميعًا كذلك يفعل الجلد الصبورُ
فلا العزى أدين ولا ابنتيها ولا صنمي بني عمرو أزورُ
ولا غنمًا أدين وكان ربا لنا في الدهر، إذا حلمي يسيرُ إلى أن قال: ولكن أعبد الرحمن ربي ليغفر ذنبي الربُّ الغفور( ) وممن كان يدين بشريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، قُس بن ساعدة الإيادي, فقد كان خطيبًا، حكيمًا، عاقلاً، له نباهة، وفضل، وكان يدعو إلى توحيد الله، وعبادته، وترك عبادة الأوثان، كما كان يؤمن بالبعث بعد الموت، وقد بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو نعيم في دلائل النبوة عن ابن عباس قال: "إن قس بن ساعدة كان يخطب قومه في سوق (عكاظ) فقال في خطبته: سيعلم حق من هذا الوجه وأشار بيده إلى مكة، قالوا: وما هذا الحق؟ قال: رجل من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش الأبد، ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه" وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ومات قبل البعثة( ). ومما كان ينشده من شعره: في الذاهبين الأوليـ ن من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها يمضي الأصاغر والأكابر لا يرجع الماضي إليّ ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا لة حيث صار القوم صائر( )
كان بعض العرب قد تنصر، وبعضهم دخل في اليهودية، أما الأغلبية فكانت تعبد الأوثان والأصنام. ثانيًا: الحالة السياسية: كان سكان الجزيرة العربية ينقسمون إلى بدو وحضر، وكان النظام السائد بينهم هو النظام القبلي، حتى في الممالك المتحضرة التي نشأت بالجزيرة، كمملكة اليمن في الجنوب ومملكة الحيرة في الشمال الشرقي، ومملكة الغساسنة في الشمال الغربي، فلم تنصهر الجماعة فيها في شعب واحد، وإنما ظلت القبائل وحدات متماسكة. والقبيلة العربية مجموعة من الناس، تربط بينها وحدة الدم (النسب) ووحدة الجماعة، وفي ظل هذه الرابطة نشأ قانون عرفي ينظم العلاقات بين الفرد والجماعة، على أساس من التضامن بينهما في الحقوق والواجبات، وهذا القانون العرفي كانت تتمسك به القبيلة في نظامها السياسي والاجتماعي( ). وزعيم القبيلة ترشحه للقيادة منزلته القبلية وصفاته، وخصائصه من شجاعة ومروءة، وكرم ونحوها، ولرئيس القبيلة حقوق أدبية ومادية، فالأدبية أهمها: احترامه وتبجيله، والاستجابة لأمره، والنزول على حكمه وقضائه، وأما المادية فقد كان له في كل غنيمة تغنمها (المرباع) وهو ربع الغنيمة، (والصفايا) وهو ما يصطفيه لنفسه من الغنيمة قبل القسمة (والنشيطة) وهي ما أصيب من مال العدو قبل اللقاء (والفضول) وهو ما لا يقبل القسمة من مال الغنيمة، وقد أجمل الشاعر العربي ذلك بقوله: لك المرباع فينا، والصفايا وحكمك، والنشيطة، والفضول( ) ومقابل هذه الحقوق, واجبات ومسئوليات، فهو في السلم جواد كريم، وفي الحرب يتقدم الصفوف، ويعقد الصلح، والمعاهدات. والنظام القبلي تسود فيه الحرية، فقد نشأ العربي في جو طليق، وفي بيئة طليقة، ومن ثم كانت الحرية من أخص خصائص العرب، ويعشقونها ويأبون الضيم والذل وكل فرد في القبيلة ينتصر لها، ويشيد بمفاخرها، وأيامها، وينتصر لكل أفرادها محقًا أو مبطلاً، حتى صار من مبادئهم: "انصر أخاك ظالمًا، أو مظلومًا". وكان شاعرهم يقول:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا والفرد في القبيلة تبع للجماعة، وقد بلغ من اعتزازهم برأي الجماعة أنه قد تذوب شخصيته في شخصيتها، قال دريد بن الصمة: وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد( ) وكانت كل قبيلة من القبائل العربية لها شخصيتها السياسية, وهي بهذه الشخصية كانت تعقد الأحلاف مع القبائل الأخرى، وبهذه الشخصية أيضًا كانت تشن الحرب عليها, ولعل من أشهر الأحلاف التي عقدت بين القبائل العربية، حلف الفضول (حلف المطيبين)( ). وكانت الحروب بين القبائل على قدم وساق ومن أشهر هذه الحروب حرب الفجار( ) وكان -عدا هذه الحروب الكبرى- تقع إغارات فردية بين القبائل تكون أسبابها شخصية أحيانًا، أو طلب العيش أحيانًا أخرى، إذ كان رزق بعض القبائل في كثير من الأحيان في حد سيوفها، ولذلك ما كانت القبيلة تأمن أن تنقض عليها قبيلة أخرى في ساعة من ليل أو نهار لتسلب أنعامها ومؤنها، وتدع ديارها خاوية كأن لم تسكن بالأمس( ). ثالثًا: الحالة الاقتصادية: يغلب على الجزيرة العربية الصحاري الواسعة الممتدة، وهذا ما جعلها تخلو من الزراعة إلا في أطرافها وخاصة في اليمن والشام، وبعض الواحات المنتشرة في الجزيرة كان يغلب على البادية رعي الإبل والغنم، وكانت القبائل تنتقل بحثًا عن مواقع الكلأ، وكانوا لا يعرفون الاستقرار إلا في مضارب خيامهم. وأما الصناعة فكانوا أبعد الأمم عنها، وكانوا يأنفون منها، ويتركون العمل فيها للأعاجم والموالي، حتى عندما أرادوا بنيان الكعبة استعانوا برجل قبطي نجا من السفينة التي غرقت بجدة ثم أصبح مقيما في مكة( ). وإذا كانت الجزيرة العربية قد حرمت من نعمتي الزراعة والصناعة، فإن موقعها الاستراتيجي بين إفريقيا وشرق آسيا جعلها مؤهلة لأن تحتل مركزا متقدما في التجارة الدولية آنذاك. (1/29)
وكان الذين يمارسون التجارة من سكان الجزيرة العربية هم أهل المدن، ولا سيما أهل مكة فقد كان لهم مركز ممتاز في التجارة، وكان لهم بحكم كونهم أهل الحرم منزلة في نفوس العرب فلا يعرضون لهم، ولا لتجارتهم بسوء، وقد امتن الله عليهم بذلك في القرآن الكريم: (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) [العنكبوت: 67] وكانت لقريش رحلتان عظيمتان شهيرتان: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، يذهبون فيها آمنين بينما الناس يتخطفون من حولهم، هذا عدا الرحلات الأخرى التي يقومون بها طوال العام، قال تعالى: (لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ` فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ` الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش: 1-4]. وكانت القوافل تحمل الطيب والبخور، والصمغ، واللبان، والتوابل والتمور، والروائح العطرية، والأخشاب الزكية، والعاج، والأبنوس، والخرز، والجلود، والبرود اليمنية والأنسجة الحريرية، والأسلحة وغيرها مما يوجد في شبه الجزيرة، أو يكون مستوردًا من خارجها، ثم تذهب به إلى الشام وغيرها ثم تعود محملة بالقمح، والحبوب، والزبيب، والزيتون، والمنسوجات الشامية وغيرها. واشتهر اليمنيون بالتجارة، وكان نشاطهم في البر وفي البحار، فسافروا إلى سواحل إفريقيا وإلى الهند وإندونيسيا، وسومطرة وغيرها من بلاد آسيا، وجزر المحيط الهندي أو البحر العربي كما يسمى، وقد كان لهم فضل كبير بعد اعتناقهم الإسلام، في نشره في هذه الأقطار. وكان التعامل بالربا منتشرًا في الجزيرة العربية، ولعل هذا الداء الوبيل سرى إلى العرب من اليهود( ) وكان يتعامل به الأشراف وغيرهم وكانت نسبة الربا في بعض الأحيان إلى أكثر من مائة في المائة( ). (1/30)
وكان للعرب أسواق مشهورة: عكاظ، ومجنّة، وذو المجاز، ويذكر بعض المؤلفين في أخبار مكة أن العرب كانوا يقيمون بعكاظ هلال ذي القعدة، ثم يذهبون منه إلى مجنة بعد مضي عشرين يومًا من ذي القعدة، فإذا رأوا هلال ذي الحجة ذهبوا إلى ذي المجاز فلبثوا فيها ثمانيَ ليال، ثم يذهبون إلى عرفة، وكانوا لا يتبايعون في عرفة ولا أيام منى حتى جاء الإسلام فأباح لهم ذلك, قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) [البقرة: 198]. وقد استمرت هذه الأسواق في الإسلام إلى حين من الدهر ثم دَرَست، ولم تكن هذه الأسواق للتجارة فحسب، بل كانت أسواقًا للأدب والشعر والخطابة يجتمع فيها فحول الشعراء ومصاقع الخطباء، ويتبارون فيها في ذكر أنسابهم، ومفاخرهم، ومآثرهم، وبذلك كانت ثروة كبرى للغة، والأدب، إلى جانب كونها ثروة تجارية( ). رابعًا: الحالة الاجتماعية: هيمنت التقاليد والأعراف على حياة العرب، وأصبحت لهم قوانين عرفية فيما يتعلق بالأحساب والأنساب، وعلاقة القبائل ببعضها والأفراد كذلك، ويمكن إجمال الحالة الاجتماعية فيما يأتي: 1- الاعتزاز الذي لا حد له بالأنساب، والأحساب، والتفاخر بهما: فقد حرصوا على المحافظة على أنسابهم، فلم يصاهروا غيرهم من الأجناس الأخرى، ولما جاء الإسلام قضى على ذلك وبين لهم أن التفاضل إنما هو بالتقوى والعمل الصالح. 2- الاعتزاز بالكلمة، وسلطانها، لا سيما الشعر: (1/31)
كانت تستهويهم الكلمة الفصيحة، والأسلوب البليغ، وكان شعرهم سجل مفاخرهم، وأحسابهم، وأنسابهم، وديوان معارفهم، وعواطفهم، فلا تعجب إذا كان نجم فيهم الخطباء المصاقع، والشعراء الفطاحل، وكان البيت من الشعر يرفع القبيلة, والبيت يخفضها، ولذلك ما كانوا يفرحون بشيء فرحهم بشاعر ينبغ في القبيلة. 3- المرأة في المجتمع العربي: كانت المرأة عند كثير من القبائل كسقط المتاع، فقد كانت تورث، وكان الابن الأكبر للزوج من غيرها من حقه أن يتزوجها بعد وفاة أبيه, أو يعضلها عن النكاح، حتى حَرَّم الإسلام ذلك، وكان الابن يتزوج امرأة أبيه( ) فنزل قول الله تعالى: (وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً) [النساء: 22]. وكانت العرب تحرم نكاح الأصول كالأمهات، والفروع كالبنات، وفروع الأب كالأخوات، والطبقة الأولى من فروع الجد كالخالات والعمات( ). وكانوا لا يورثون البنات ولا النساء ولا الصبيان، ولا يورثون إلا من حاز الغنيمة وقاتل على ظهور الخيل، وبقي حرمان النساء والصغار من الميراث عرفا معمولاً به عندهم إلى أن توفي أوس بن ثابت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك بنتين كانت بهما دمامة، وابنًا صغيرًا، فجاء ابنا عمه وهما عصبته فأخذا ميراثه كله، فقالت امرأته لهما: تزوجا البنتين، فأبيا ذلك لدمامتهما، فأتت رسول الله فقالت: يا رسول الله توفي أوس وترك ابنًا صغيرًا وابنتين، فجاء ابنا عمه سويد وعرفطة فأخذا ميراثه، فقلت لهما: تزوجا ابنتيه، فأبيا، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا تحركا في الميراث شيئًا" ( )، ونزل قوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) [النساء: 7]. (1/32)
وكان العرب يُعيّرون بالبنات؛ لأن البنت لا تخرج في الغزو، ولا تحمي البيضة من المعتدين عليها، ولا تعمل فتأتي بالمال شأن الرجال، وإذا ما سبيت اتخذت للوطء تتداولها الأيدي لذلك، بل ربما أكرهت على احتراف البغاء، ليضم سيدها ما يصير إليها من المال بالبغاء إلى ماله، وقد كانت العرب تبيح ذلك، وقد كان هذا يورث الهم والحزن والخجل للأب عندما تولد له بنت، وقد حدثنا القرآن الكريم عن حالة من تولد له بنت فقال تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ` يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ) [النحل: 58-59]. وكثيرا ما كانوا يختارون دسها في التراب، ووأدها حية، ولا ذنب لها إلا أنها أنثى( )؛ ولذلك أنكر القرآن الكريم عليهم هذه الفعلة الشنيعة قال تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ` بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) [التكوير: 8-9]. وكان بعض العرب يقتل أولاده من الفقر أو خشية الفقر فجاء الإسلام وحرم ذلك قال تعالى: )قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) [الأنعام: 151]. وقال تعالى: )وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) [الإسراء: 31]. وكانت بعض القبائل لا تئد البنات، كما كان فيهم من يستقبحون هذه الفعلة الشنعاء كزيد بن عمرو بن نفيل( ). (1/33)
وكانت بعض القبائل تحترم المرأة وتأخذ رأيها في الزواج، وكانت المرأة العربية الحرة تأنف أن تفترش لغير زوجها وحليلها، وكانت تتسم بالشجاعة وتتبع المحاربين وتشجعهم، وقد تشارك في القتال إذا دعت الضرورة، وكانت المرأة البدوية العربية تشارك زوجها في رعي الماشية، وسقيها، وتغزل الوبر والصوف وتنسج الثياب، والبرود، والأكسية، مع التصون والتعفف( ). 4- النكاح: تعارف العرب على أنواع النكاح، لا يعيب بعضهم على بعض إتيانها، وقد ذكرت لنا السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت: "إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها( ): أرسلي إلى فلان فاستبضعي( ) منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا، حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر: يجتمع الرهط( ) ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت، ومرت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لها القافة( ) ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط( ) به ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم"( ). (1/34)
وذكر بعض العلماء أنحاء أخرى لم تذكرها عائشة رضي الله عنها كنكاح الخدن وهو في قوله تعالى: )وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ) كانوا يقولون: ما استتر فلا بأس به، وما ظهر فهو لوم، وهو إلى الزنا أقرب منه إلى النكاح، وكنكاح المتعة وهو النكاح المعين بوقت، ونكاح البدل: كان الرجل في الجاهلية يقول للرجل: انزل لي على امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك( ). ومن الأنكحة الباطلة نكاح الشغار وهو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ليس بينهما صداق( ). وكانوا يحلون الجمع بين الأختين في النكاح، وكانوا يبيحون للرجل أن يجمع في عصمته من الزوجات ما شاء دون التقيد بعدد، وكان الذين جمعوا بين أكثر من أربع زوجات أكثر من أن ينالهم العد( )، وجاء الإسلام ومنهم من له العشرة من النساء والأكثر، والأقل، فقصر ذلك على أربع إن علم أنه يستطيع الإنفاق عليهن، والعدل بينهن، فإن خاف عدم العدل فليكتف بواحدة، وما كانوا في الجاهلية يلتزمون العدل بين الزوجات، وكانوا يسيئون عشرتهن، ويهضمون حقوقهن حتى جاء الإسلام فأنصفهن، وأوصى بالإحسان إليهن في العشرة، وقرر لهن حقوقا ما كن يحلمن بها( ). 5- الطلاق: كانوا يمارسون الطلاق، ولم يكن للطلاق عندهم عدد محدد, فكان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها هكذا أبدًا، وبقي هذا الأمر معمولاً به في صدر الإسلام( ) إلى أن أنزل الله تبارك وتعالى قوله: )الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) [البقرة: 229]. (1/35)
فقيد الإسلام عدد الطلقات، وأعطى للزوج فرصة لتدارك أمره، ومراجعة زوجته مرتين، فإن طلق الثالثة فقد انقطعت عروة النكاح، ولا تحل له إلا بعد زوج آخر، ففي الكتاب الكريم )فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ ) [البقرة: 230]. ومما كان يلحق بالطلاق في التحريم الظهار، وهو أن يقول الزوج لزوجته: أنت علي كظهر أمي، وكان تحريمًا مؤبدًا حتى جاء الإسلام، فوسمه بأنه منكر من القول وزور، وجعل للزوج مخرجًا منه، وذلك بالكفارة( ) قال تعالى: )الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ.وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ` فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [المجادلة:2- 4]. 6- الحروب، والسطو، والإغارة: (1/36)
كانت الحروب تقوم بينهم لأتفه الأسباب، فهم لا يبالون بشن الحروب وإزهاق الأرواح في سبيل الدفاع عن المثل الاجتماعية التي تعارفوا عليها وإن كانت لا تستحق التقدير، وقد روى لنا التاريخ سلسلة من أيام العرب في الجاهلية مما يدل على تمكن الروح الحربية من نفوس العرب وغلبتها على التعقل والتفكير، فمن تلك الأيام مثلا يوم البسوس، وقد قامت الحرب فيه بين بكر وتغلب بسبب ناقة للجرمي وهو جار للبسوس بنت منقذ خالة جساس بن مرة، وقد كان كليب سيد تغلب قد حمى لإبله مكانًا خاصًا به فرأى فيه هذه الناقة فرماها فجزع الجرمي وجزعت البسوس، فلما رأى ذلك جساس تحين الفرصة لقتل كليب فقتله فقامت الحروب الطاحنة بين القبيلتين لمدة أربعين سنة( ). وكذلك يوم داحس والغبراء، وقد كان سببه سباقًا أقيم بين داحس وهو فرس لقيس ابن زهير، والغبراء وهي لحذيفة بن بدر فأوعز هذا إلى رجل ليقف في الوادي فإن رأى داحسا قد سبق يرده وقد فعل ذلك فلطم الفرس حتى أوقعها في الماء فسبقت الغبراء، وحصل بعد ذلك القتل والأخذ بالثأر، وقامت الحرب بين قبيلتي عبس وذبيان( ). وكذلك الحروب التي قامت بين الأوس والخزرج في الجاهلية وهم أبناء عم، حيث إن الأوس والخزرج أبناء حارثة بن ثعلبة الأزدي، واستمرت الحروب بينهم وكان آخر أيامهم (بُعاث) وذلك أن حلفاء الأوس من اليهود جددوا عهودهم معهم على النصرة، وهكذا كان كثير من حروب الأوس والخزرج يذكيها اليهود حتى يضعفوا القبيلتين فتكون لهم السيادة الدائمة، واستعان كل فريق منهم بحلفائه من القبائل المجاورة فاقتتلوا قتالاً شديدًا كانت نهايته لصالح الأوس( ). وكانت بعض القبائل تسطو وتغير بغية نهب الأموال وسبي الأحرار وبيعهم، كزيد ابن حارثة فقد كان عربيًّا حرًا، وكسلمان الفارسي فقد كان فارسيًّا حرًّا، وقد قضى الإسلام على ذلك حتى كانت تسير المرأة والرجل من صنعاء إلى حضرموت لا يخافان إلا الله والذئب على أغنامهما( ). (1/37)
7- العلم والقراءة والكتابة: لم يكن العرب أهل كتاب وعلم كاليهود والنصارى، بل كان يغلب عليهم الجهل والأمية، والتقليد والجمود على القديم -وإن كان باطلا- وكانت أمة العرب لا تكتب ولا تحسب وهذه هي الصفة التي كانت غالبة عليها، وكان فيهم قليل ممن يكتب ويقرأ ومع أميتهم وعدم اتساع معارفهم فقد كانوا يشتهرون بالذكاء، والفطنة، والألمعية، ولطف المشاعر، وإرهاف الحس، وحسن الاستعداد، والتهيؤ لقبول العلم والمعرفة، والتوجيه الرشيد؛ ولذلك لما جاء الإسلام صاروا علماء، حكماء، فقهاء، وزالت عنهم الأمية، وأصبح العلم والمعرفة من أخص خصائصهم، وكان فيهم من مهر في علم قص الأثر، وهو القيافة, وكان فيهم أطباء كالحارث بن كلدة، وكان طبهم مبنيا على التجارب التي اكتسبوها من الحياة والبيئة( ). خامسًا: الحالة الأخلاقية: كانت أخلاق العرب قد ساءت وأولعوا بالخمر والقمار، وشاعت فيهم الغارات وقطع الطريق على القوافل، والعصبية والظلم، وسفك الدماء، والأخذ بالثأر، واغتصاب الأموال، وأكل مال اليتامى، والتعامل بالربا، والسرقة والزنا، ومما ينبغي أن يعلم أن الزنا إنما كان في الإماء وأصحاب الرايات من البغايا، ويندر أن يكون في الحرائر، وليس أدل على هذا من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ البيعة على النساء بعد الفتح: "على أن لا يشركن بالله شيئًا، ولا يسرقن، ولا يزنين" "قالت السيدة هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان: أَوَتزني الحرة( )؟!!. وليس معنى هذا أنهم كانوا كلهم على هذا, لا. لقد كان فيهم كثيرون لا يزنون ولا يشربون الخمر، ولا يسفكون الدماء ولا يظلمون، ويتحرجون من أكل أموال اليتامى، ويتنزهون عن التعامل بالربا( ) وكانت فيهم سمات وخصال من الخير كثيرة أهلتهم لحمل راية الإسلام ومن تلك الخصال والسمات: 1- الذكاء والفطنة: (1/38)
فقد كانت قلوبهم صافية, لم تدخلها تلك الفلسفات والأساطير والخرافات التي يصعب إزالتها, كما في الشعوب الهندية والرومانية والفارسية، فكأن قلوبهم كانت تعد لحمل أعظم رسالة في الوجود وهي دعوة الإسلام الخالدة؛ ولهذا كانوا أحفظ شعب عرف في ذلك الزمن، وقد وجه الإسلام قريحة الحفظ والذكاء إلى حفظ الدين وحمايته، فكانت قواهم الفكرية، ومواهبهم الفطرية مذخورة فيهم، لم تستهلك في فلسفات خيالية، وجدال بيزنطي عقيم، ومذاهب كلامية معقدة( ). واتساع لغتهم دليل على قوة حفظهم وذاكرتهم، فإذا كان للعسل ثمانون اسمًا وللثعلب مائتان وللأسد خمسمائة، فإن للجمل ألفًا، وكذا السيف، وللداهية نحو أربعة آلاف اسم، ولا شك أن استيعاب هذه الأسماء يحتاج إلى ذاكرة قوية حاضرة وقَّادة( ). وقد بلغ بهم الذكاء والفطنة إلى الفهم بالإشارة فضلا عن العبارة، والأمثلة على ذلك كثيرة( ). 2- أهل كرم وسخاء: كان هذا الخُلُق متأصلا في العرب، وكان الواحد منهم لا يكون عنده إلا فرسه، أو ناقته، فيأتيه الضيف، فيسارع إلى ذبحها، أو نحرها له، وكان بعضهم لا يكتفي بإطعام الإنسان بل كان يطعم الوحش، والطير، وكرم حاتم الطائي سارت به الركبان، وضربت به الأمثال( ). 3- أهل شجاعة ومروءة ونجدة: كانوا يتمادحون بالموت قتلاً، ويتهاجون بالموت على الفراش قال أحدهم لما بلغه قتل أخيه: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفًا، ولكن قطعًا بأطراف الرماح، وموتًا تحت ظلال السيوف: وما مات منا سيد حتف أنفه ولا طُلّ منا حيث كان قتيل تسيل على حد الظباة نفوسنا وليست على غير الظباة تسيل وكان العرب لا يقدمون شيئا على العز وصيانة العرض، وحماية الحريم، واسترخصوا في سبيل ذلك نفوسهم قال عنترة: بَكَرَت تخوفني الحُتوف كأنني أصبحت عن غرض الحتوف بمعزلِ فأجبتها إن المنية منهل لا بد أن أُسْقى بكأس المنهلِ فأقني حياءك لا أبا لك واعلمي أني امرؤ سأموت إن لم أقتل( ) (1/39)
وقال عنترة: لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل ماء الحياة بذلة كجهنم وجهنم بالعز أطيب منزل( ) وكان العرب بفطرتهم أصحاب شهامة ومروءة، فكانوا يأبون أن ينتهز القوي الضعيف، أو العاجز، أو المرأة أو الشيخ، وكانوا إذا استنجد بهم أحد أنجدوه ويرون من النذالة التخلي عمن لجأ إليهم. 4- عشقهم للحرية، وإباؤهم للضيم والذل: كان العربي بفطرته يعشق الحرية, يحيا لها، ويموت من أجلها، فقد نشأ طليقًا لا سلطان لأحد عليه، ويأبى أن يعيش ذليلاً، أو يمس في شرفه وعرضه ولو كلفه ذلك حياته( ), فقد كانوا يأنفون من الذل ويأبون الضيم والاستصغار والاحتقار, وإليك مثال على ذلك. جلس عمرو بن هند ملك الحيرة لندمائه وسألهم: هل تعلمون أحدًا من العرب تأنف أمه خدمة أمي؟ قالوا: نعم، أم عمرو بن كلثوم الشاعر الصعلوك. فدعا الملك عمرو بن كلثوم لزيارته، ودعا أمه لتزور أمه، وقد اتفق الملك مع أمه أن تقول لأم عمرو بن كلثوم بعد الطعام: ناوليني الطبق الذي بجانبك، فلما جاءت قالت لها ذلك، فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فأعادت عليها الكرة وألحت، فصاحت ليلى أم عمرو بن كلثوم: وا ذلاه يا لتغلب.. فسمعها ابنها فاشتد به الغضب فرأى سيفا للملك معلقا بالرواق فتناوله وضرب به رأس الملك عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب، وانتهبوا ما في الرواق، ونظم قصيدة يخاطب بها الملك قائلا: بأي مشيئة عمرو بن هند نكون لقيلكم( ) فيها قطينا( ) بأي مشيئة عمرو بن هند تطيع بنا الوشاة وتزدرينا تهددنا وتوعدنا رويدًا متى كنا لأمك مقتوينا( ) إذا ما الملك سام الناس خسفًا أبينا أن نقر الذل فينا( ) 5- الوفاء بالعهد وحبهم للصراحة والوضوح والصدق: (1/40)
كانوا يأنفون من الكذب ويعيبونه، وكانوا أهل وفاء، ولهذا كانت الشهادة باللسان كافية للدخول في الإسلام, ويدل على أنفتهم من الكذب قصة أبي سفيان مع هرقل لما سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الحروب بينهم قائمة قال: "لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبًا لكذبت عنه"( ). أما وفاؤهم: فقد قال النعمان بن المنذر لكسرى في وفاء العرب: "وإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماء فهي وَلث( ) وعقدة لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عودًا من الأرض فيكون رهنًا بدينه فلا يُغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به, وعسى أن يكون نائيا عن داره، فيصاب, فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي أصابته، أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره، وأنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله"( ). والوفاء خلق متأصل بالعرب, فجاء الإسلام ووجهه الوجهة السليمة, فغلظ على من آوى محدثًا مهما كانت منزلته وقرابته، قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من آوى محدثا"( ). (1/41)
ومن القصص الدالة على وفائهم( ): "أن الحارث بن عباد قاد قبائل بكر لقتال تغلب وقائدهم المهلهل الذي قتل ولد الحارث، وقال: (بؤ بشسع نعل كليب) في حرب البسوس، فأسر الحارث مهلهلاً وهو لا يعرفه, فقال دلني على مهلهل بن ربيعة وأخلي عنك، فقال له: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال: نعم قال: فأنا هو، فجز ناصيته وتركه" وهذا وفاء نادر ورجولة تستحق الإكبار( ). ومن وفائهم: أن النعمان بن المنذر خاف على نفسه من كسرى لما منعه من تزويج ابنته فأودع أسلحته وحرمه إلى هانئ بن مسعود الشيباني، ورحل إلى كسرى فبطش به، ثم أرسل إلى هانئ يطلب منه ودائع النعمان، فأبى، فسير إليه كسرى جيشًا لقتاله فجمع هانئ قومه آل بكر وخطب فيهم فقال: "يا معشر بكر، هالك معذور، خير من ناج فرور، إن الحذر لا ينجي من قدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، الطعن في ثغر النحور، أكرم منه في الأعجاز والظهور، يا آل بكر قاتلوا فما للمنايا من بد"( )، واستطاع بنو بكر أن يهزموا الفرس في موقعة ذي قار، بسبب هذا الرجل الذي احتقر حياة الصغار والمهانة، ولم يبال بالموت في سبيل الوفاء بالعهود. 6- الصبر على المكاره وقوة الاحتمال، والرضا باليسير: كانوا يقومون من الأكل ويقولون: البطنة تذهب الفطنة، ويعيبون الرجل الأكول الجشع, قال شاعرهم: إذا مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل( ) (1/42)
| |
| | | ابو مسلم عضز فعال
عدد الرسائل : 51 تاريخ التسجيل : 03/12/2008
| موضوع: رد: السيرة النبوية المطهرة الخميس مارس 25, 2010 8:35 pm | |
| | |
| | | ابو مسلم عضز فعال
عدد الرسائل : 51 تاريخ التسجيل : 03/12/2008
| موضوع: رد: السيرة النبوية المطهرة الخميس مارس 25, 2010 8:37 pm | |
| وقد شاع حديث ذلك, وانتشر بين اليهود وغيرهم حتى بلغ درجة القطع عندهم، وبناء عليه كان اليهود يقولون لأهل المدينة المنورة: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم( )، وكان ذلك الحديث سببًا في إسلام رجال من الأنصار وقد قالوا: "إنما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى وهداه، لما كنا نسمع من رجال اليهود، كنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه تقارب زمان نبي يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم"( ). وقد قال هرقل ملك الروم عندما استلم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم: "وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم"( ). 3- الحالة العامة التي وصل إليها الناس: لخص الأستاذ الندوي الحال التي كان عليها العرب وغيرهم وقتذاك بقوله: كانت الأوضاع الفاسدة، والدرجة التي وصل إليها الإنسان في منتصف القرن السادس المسيحي أكبر من أن يقوم لإصلاحها مصلحون ومعلمون في أفراد الناس، فلم تكن القضية قضية إصلاح عقيدة من العقائد، أو إزالة عادة من العادات، أو قبول عبادة من العبادات، أو إصلاح مجتمع من المجتمعات، فقد كان يكفي له المصلحون والمعلمون الذين لم يخل منهم عصر ولا مصر. (1/86)
ولكن القضية كانت قضية إزالة أنقاض الجاهلية، ووثنية تخريبية, تراكمت عبر القرون والأجيال، ودفنت تحتها تعاليم الأنبياء والمرسلين، وجهود المصلحين والمعلمين، وإقامة بناء شامخ مشيد البنيان، واسع الأرجاء، يسع العالم كله، ويؤوي الأمم كلها، قضية إنشاء إنسان جديد، يختلف عن الإنسان القديم في كل شيء، كأنه ولد من جديد، أو عاش من جديد قال تعالى: ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [الأنعام: 122]. قضية اقتلاع جرثومة الفساد واستئصال شأفة الوثنية، واجتثاثها من جذورها، بحيث لا يبقى لها عين ولا أثر، وترسيخ عقيدة التوحيد في أعماق النفس الإنسانية, ترسيخًا لا يتصور فوقه، وغرس ميل إلى إرضاء الله وعبادته، وخدمة الإنسانية والانتصار للحق، يتغلب على كل رغبة، ويقهر كل شهوة، ويجرف كل مقاومة وبالجملة الأخذ بحجز الإنسانية المنتحرة التي استجمعت قواها للوثوب في جحيم الدنيا والآخرة، والسلوك بها على طريق أولها سعادة، يحظى بها العارفون المؤمنون, وآخرها جنة الخلد التي وُعد المتقون، ولا تصوير أبلغ وأصدق من قوله تعالى في معرض المن ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم( ): ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) [آل عمران: 103]. 4- إرهاصات نبوته صلى الله عليه وسلم: (1/87)
ومن إرهاصات نبوته صلى الله عليه وسلم تسليم الحجر عليه قبل النبوة، فعن جابر بن سَمُرَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن"( ). ومنها الرؤيا الصادقة وهي أول ما بدئ له من الوحي فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح( ). وحبب إليه صلى الله عليه وسلم العزلة والتحنث (التعبد) فكان يخلو في غار حراء وهو جبل يقع في الجانب الشمالي الغربي من مكة، ويتعبد فيه الليالي ذوات العدد، فتارة عشرة, وتارة أكثر من ذلك إلى شهر، ثم يعود إلى بيته فلا يكاد يمكث فيه قليلا حتى يتزود من جديد لخلوة أخرى، ويعود الكرة إلى غار حراء، وهكذا إلى أن جاءه الوحي وهو في إحدى خلواته تلك( ). * * *
الفصل الثاني نزول الوحي والدعوة السرية المبحث الأول نزول الوحي على سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم (1/88)
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الأربعين من عمره وكان يخلو في غار حراء بنفسه، ويتفكر في هذا الكون وخالقه، وكان تعبده في الغار يستغرق ليالي عديدة حتى إذا نفد الزاد عاد إلى بيته فتزود لليالٍ أخرى، وفي نهار يوم الاثنين( ) من شهر رمضان جاءه جبريل بغتة لأول مرة داخل غار حراء( )، وقد نقل البخاري في صحيحه حديث عائشة رضي الله عنها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: "ما أنا بقارئ" قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني قال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ" فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: "ما أنا بقارئ" فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) [العلق: 1: 4] فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجُف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: "زملوني! زملوني" فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: "لقد خشيت على نفسي" فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل( ) وتكسب المعدوم( )، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق( )، فانطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى, ابن عم خديجة، وكان امرأً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن (1/89)
أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى: فقال له ورقة: هذا الناموس( ) الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعًا( )، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَمُخْرِجِيّ هم؟" قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا( )، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي( )"( ). عندما نتأمل في حديث السيدة عائشة يمكن للباحث أن يستنتج قضايا مهمة تتعلق بسيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن أهمها: أولاً: الرؤيا الصالحة: ففي حديث عائشة رضي الله عنها أن أول ما بدئ به محمد صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، وتسمى أحيانًا بالرؤيا الصادقة، والمراد بها هنا رؤى جميلة ينشرح لها الصدر وتزكو بها الروح( ) ولعل الحكمة من ابتداء الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالوحي بالمنام، أنه لو لم يبتدئه بالرؤيا, وأتاه الملك فجأة ولم يسبق له أن رأى ملكًا من قبل, فقد يصيبه شيء من الفزع، فلا يستطيع أن يتلقى منه شيئا، لذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن يأتيه الوحي أولا في المنام ليتدرب عليه ويعتاده( ) والرؤيا الصادقة الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما ورد في الحديث الشريف( ) وقد قال العلماء: وكانت مدة الرؤيا الصالحة ستة أشهر، ذكره البيهقي، ولم ينزل عليه شيء من القرآن في النوم بل نزل كله يقظة. والرؤيا الصالحة من البشرى في الحياة الدنيا فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "أيها الناس, إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له"( ). (1/90)
فكان صلى الله عليه وسلم قبل نزول جبريل عليه السلام عليه بالوحي في غار حراء يرى الرؤى الجميلة فيصحو منشرح الصدر، متفتح النفس لكل ما في الحياة من جمال( )، لقد أجمعت الروايات من حديث بدء الوحي أن أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة الصالحة، يراها في النوم فتجيء في اليقظة كاملة، واضحة كما رآها في النوم، لا يغيب عليه منها شيء كأنما نقشت في قلبه وعقله، وقد شبهت السيدة عائشة رضي الله عنها- وهي من أفصح العرب- ظهور رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذا استيقظ بها من كمال وضوحها بظهور ضوء الصبح ينفلق عنه غبش الظلام، وهو تصوير بياني لا تنفلق دنيا العرب في ذرى فصاحتهم عن أبلغ منه( ). ثانيًا: ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه: وقبيل النبوة حبب إلى نفس النبي صلى الله عليه وسلم الخلوة، ليتفرغ قلبه وعقله وروحه إلى ما سيلقى إليه من أعلام النبوة، فاتخذ من غار حراء متعبدًا، لينقطع عن مشاغل الحياة ومخالطة الخلق، واستجماعًا لقواه الفكرية، ومشاعره الروحية، وإحساساته النفسية، ومداركه العقلية، تفرغًا لمناجاة مبدع الكون وخالق الوجود( ) والغار الذي كان يتردد عليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يبعث على التأمل والتفكر، تنظر إلى منتهى الطرف فلا ترى إلا جبالاً كأنها ساجدة متطامنة لعظمة الله، وإلا سماء صافية الأديم، وقد يرى من يكون فيه, مكة إذا كان حاد البصر( ). كانت هذه الخلوة التي حببت إلى نفس النبي صلى الله عليه وسلم لونًا من الإعداد الخاص، وتصفية النفس من علائق المادية البشرية إلى جانب تعهده الخاص بالتربية الإلهية والتأديب الرباني في جميع أحواله، وكان تعبده صلى الله عليه وسلم قبل النبوة بالتفكر في بديع ملكوت السماوات، والنظر في آياته الكونية الدالة على بديع صنعه وعظيم قدرته، ومحكم تدبيره، وعظيم إبداعه( ). (1/91)
وقد أخذ بعض أهل السلوك إلى الله من ذلك, فكرة الخلوة مع الذكر والعبادة في مرحلة من مراحل السلوك، لتنوير قلبه وإزالة ظلمته وإخراجه من غفلته وشهوته وهفوته، ومن سنن النبي صلى الله عليه وسلم سنة الاعتكاف في رمضان( ) وهي مهمة لكل مسلم سواء كان حاكمًا أو عالمًا، أو قائدًا، أو تاجرًا.. لتنقية الشوائب التي تعلق بالنفوس والقلوب، ونصحح واقعنا على ضوء الكتاب والسنة، ونحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب( ). ويمكن لأهل فقه الدعوة أن يعطوا لأنفسهم فترة من الوقت للمراجعة الشاملة والتوبة، والتأمل في واقع الدعوة وما هي عليه من قوة أو ضعف واكتشاف عوامل الخلل، ومعرفة الواقع بتفاصيله، خيره وشره. وفي قول السيدة عائشة: "فيتحنث الليالي ذوات العدد" يقول الشيخ محمد عبد الله دراز: "هذا كناية عن كون هذه الليالي لم تصل إلى نهاية القلة ولا إلى نهاية الكثرة، وما زال هذا الهدي الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة من التوسط والاقتصاد في الأعمال، شعارًا للملة الإسلامية ورمزًا للهدي النبوي الكريم بعد أن أرسله الله رحمة للعالمين"( ). ثالثًا: حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاء المَلَك فقال: اقرأ. قال: قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ` خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ` اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ ` الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) [العلق: 1-4]. (1/92)
لقد كانت هذه الآيات الكريمات المباركات أول شيء نزل من القرآن الكريم وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وإن من كرم الله تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم, فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به آدم عليه السلام على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون بالكتابة بالبنان( ) وبهذه الآيات كانت بداية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لقد كان هذا الحادث ضخمًا، لقد عبر عنه الشهيد سيد قطب -رحمه الله- في ظلاله فقال: "إنه حادث ضخم, ضخم جدًا، ضخم إلى غير حد، ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا! إنه حادث ضخم بحقيقته، وضخم بدلالته، وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعًا، وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد -بغير مبالغة- هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل. ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة؟ حقيقته أن الله جل جلاله، العظيم الجبار القهار المتكبر، مالك الملك كله، قد تكرم -في عليائه- فأراد أن يرحم هذه الخليقة المسماة بالإنسان، القابعة في ركن من أركان الكون, لا يكاد يُرى اسمه الأرض، وكرَّم هذه الخليقة باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي، ومستودع حكمته، ومهبط كلماته، وممثل قدره الذي يريده - سبحانه - بهذه الخليقة.."( ). كانت بداية الوحي الإلهي فيها إشادة بالقلم وخطره، والعلم ومنزلته, في بناء الشعوب والأمم وفيها إشارة واضحة بأن من أخص خصائص الإنسان العلم والمعرفة( ). وفي هذا الحادث العظيم تظهر مكانة ومنزلة العلم في الإسلام، فأول كلمة في النبوة تصل إلى رسول الله هي الأمر بالقراءة ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) [العلق: 1]. وما زال الإسلام يحث على العلم ويأمر به ويرفع درجة أهله ويميزهم على غيرهم (1/93)
قال تعالى: ( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) [المجادلة: 11] وقال سبحانه ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ) [الزمر: 9]. إن مصدر العلم النافع من الله عز وجل، فهو الذي علم بالقلم, وعلم الإنسان ما لم يعلم، ومتى حادت البشرية عن هذا المنهج، وانفصل علمها عن التقيد بمنهج الله تعالى رجع علمها وبالاً عليها وسببًا في إبادتها( ). رابعًا: الشدة التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم ووصف ظاهرة الوحي: لقد قام جبريل عليه السلام بضغط النبي صلى الله عليه وسلم مرارا حتى أجهده وأتعبه، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى من الوحي شدة وتعبًا وثقلاً كما قال تعالى: ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً ) [المزمل: 5]. كان في ذلك حكمة عظيمة لعل منها: بيان أهمية هذا الدين وعظمته وشدة الاهتمام به، وبيان للأمة أن دينها الذي تتنعم به ما جاءها إلا بعد شدة وكرب( ). إن ظاهرة الوحي معجزة خارقة للسنن والقوانين الطبيعية, حيث تلقى النبي صلى الله عليه وسلم كلام الله (القرآن) بواسطة الملك جبريل (عليه السلام)؛ وبالتالي فلا صلة لظاهرة الوحي بالإلهام أو التأمل الباطني, أو الاستشعار الداخلي، بل إن الوحي يتم من خارج ذات النبي صلى الله عليه وسلم، وتنحصر وظيفته بحفظ الموحى وتبليغه، وأما بيانه وتفسيره فيتم بأسلوب النبي كما يظهر في أحاديثه وأقواله صلى الله عليه وسلم( ). (1/94)
إن حقيقة الوحي, هي الأساس الذي تترتب عليه جميع حقائق الدين, بعقائده وتشريعاته وأخلاقه, ولذلك اهتم المستشرقون والملاحدة من قبلهم, بالطعن والتشكيك في حقيقة الوحي، وحاولوا أن يأولوا ظاهرة الوحي ويحرفوها عن حقيقتها عما جاءنا في صحاح السنة الشريفة، وحدثنا به المؤرخون الثقات، فقائل يقول: إن محمدا صلى الله عليه وسلم تعلم القرآن ومبادئ الإسلام من بحيرا الراهب، وبعضهم قال بأن محمدًا كان رجلاً عصبيًا أو مصابًا بداء الصرع( ). والحقيقة تقول: إن محمدًا عليه الصلاة والسلام وهو في غار حراء فوجئ بجبريل أمامه يراه بعينه، وهو يقول له: اقرأ، حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمرا ذاتيًا داخليًا مرده إلى حديث النفس المجرد، وإنما هو استقبال وتلقٍّ لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس وداخل الذات، وضم الملك إياه ثم إرساله ثلاث مرات قائلا في كل مرة: اقرأ، يعتبر تأكيدا لهذا التلقي الخارجي ومبالغة في نفي ما قد يتصور، من أن الأمر لا يعدو كونه خيالاً داخليًا فقط. ولقد أصيب النبي صلى الله عليه وسلم بالرعب والخوف مما سمع ورأى, وأسرع إلى بيته يرجف فؤاده, وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متشوقا للرسالة التي سيكلف بثقلها وتبليغها للناس,( ) وقد قال تعالى تأكيدا لهذا المعنى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ` صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إلى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ) [الشورى: 52-53]. (1/95)
وقال تعالى ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) [يونس: 15، 16]. لقد تساقطت آراء المشككين في حقيقة الوحي أمام الحديث الصحيح الذي حدثتنا به السيدة عائشة رضي الله عنها، وقد استمر الوحي بعد ذلك يحمل الدلالة نفسها على حقيقة الوحي، وأنه ليس كما أراد المشككون. وقد أجمل الدكتور البوطي هذه الدلالة فيما يلي: 1- التمييز الواضح بين القرآن والحديث، إذ كان يأمر بتسجيل الأول فورًا، وعلى حين يكتفي بأن يستودع الثاني ذاكرة أصحابه؛ لا لأن الحديث كلام من عنده لا علاقة للنبوة به، بل لأن القرآن موحى به إليه بنفس اللفظ والحروف بواسطة جبريل عليه السلام، أما الحديث فمعناه وحي من الله عز وجل، ولكن لفظه وتركيبه من عنده عليه الصلاة والسلام، فكان يحاذر أن يختلط كلام الله عز وجل الذي يتلقاه من جبريل بكلامه هو. 2- كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل عن بعض الأمور، فلا يجيب عليها وربما مر على سكوته زمن طويل، حتى تنزل آية من القرآن في شأن سؤاله، وربما تصرف الرسول في بعض الأمور على وجه معين، فتنزلت آيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه، وربما انطوت على عتب أو لوم له. (1/96)
3- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميًّا.. وليس من الممكن أن يعلم إنسان بواسطة المكاشفة النفسية حقائق تاريخية، كقصة يوسف عليه السلام, وأم موسى حينما ألقت وليدها في اليم، وقصة فرعون, ولقد كان هذا من جملة الحكم في كونه صلى الله عليه وسلم أميًّا: ( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) [العنكبوت: 48]. 4- إن صدق النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة مع قومه واشتهاره فيهم بذلك، يستدعي أن يكون صلى الله عليه وسلم من قبل ذلك صادقًا مع نفسه، ولذا فلا بد أن يكون قد قضى في دراسته لظاهرة الوحي على أي شك يخايل لعينيه أو فكره, وكأن هذه الآية جاءت ردًا لدراسته الأولى لشأن نفسه مع الوحي ( فَإِن كُنْتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) [يونس: 94]. ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد نزول هذه الآية: "لا أشك ولا أسأل"( ). خامسًا: أنواع الوحي: تحدث العلماء عن أنواع الوحي فذكروا منها: 1- الرؤيا الصادقة: وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم, وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد جاء في الحديث "رؤيا الأنبياء وحي"، قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: ( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ). 2- الإلهام: وهو أن ينفث الملك في روعه - أي قلبه من غير أن يراه- كما قال عليه الصلاة والسلام: "إن روح القدس نفث في روعي" ( ) أي: إن جبريل عليه السلام نفخ في قلبي: "أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" ( ). (1/97)
3- أن يأتيه مثل صلصلة الجرس، أي مثل صوته في القوة، وهو أشده، كما في حديث عائشة: أن الحارث t سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد علي, فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول"( ). 4- ما أوحاه الله تعالى إليه، بلا وساطة ملك, كما كلم الله موسى بن عمران عليه السلام، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعًا بنص القرآن وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء( ). 5- أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله تعالى أن يوحيه. 6- أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانًا( ). هذا ما قاله ابن القيم عن مراتب الوحي. لقد كان نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بداية عهد جديد في حياة الإنسانية بعد ما انقطع، وتاهت البشرية في دياجير الظلام. وكان وقْع نزول الوحي شديدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو واضح من النص, بالرغم من أنه كان أشجع الناس وأقواهم قلبًا، كما دلت على ذلك الأحداث خلال ثلاث وعشرين سنة، وذلك لأن الأمر ليس مخاطبة بشر لبشر، ولكنه كان مخاطبة عظيم الملائكة وهو يحمل كلام الله تعالى, ليستقبله من اصطفاه الله جل وعلا لحمل هذا الكلام وإبلاغه لعامة البشر. ولقد كان موقفًا رهيبًا ومسئولية عظمى, لا يقوى عليها إلا من اختاره الله تبارك وتعالى لحمل هذه الرسالة وتبليغها( ). ومما يصور رهبة هذا الموقف ما جاء في هذه الرواية من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد خشيت على نفسي" وقول عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث: (فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها قال: "زملوني زملوني" فزملوه حتى ذهب عنه الروع. (1/98)
ومما يبين شدة نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرجه الإمام البخاري ومسلم -رحمهما الله- من حديث عائشة رضي الله عنها: قالت: (ولقد رأيته -تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقًا) ( ) وحديث عبادة بن الصامت t قال: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كُرِبَ لذلك وترَبَّد وجهه)( ). سادسًا: أثر المرأة الصالحة في خدمة الدعوة: كان موقف خديجة رضي الله عنها يدل على قوة قلبها، حيث لم تفزع من سماع هذا الخبر، واستقبلت الأمر بهدوء وسكينة، ولا أدل على ذلك من ذهابها فور سماعها الخبر إلى ورقة بن نوفل، وعرضت الأمر عليه( ). كان موقف خديجة رضي الله عنها من خبر الوحي يدل على سعة إدراكها، حيث قارنت بين ما سمعت, وواقع النبي صلى الله عليه وسلم, فأدركت أن من جُبِل على مكارم الأخلاق لا يخزيه الله أبدًا، فقد وصفته بأنه يصل الرحم، وكون الإنسان يصل أقاربه دليل على استعداده النفسي لبذل الخير والإحسان إلى الناس، فإن أقارب الإنسان هم المرآة الأولى لكشف أخلاقه، فإن نجح في احتواء أقاربه, وكسبهم بما له عليهم من معروف كان طبيعيا بأن ينجح في كسب غيرهم من الناس( ). كانت أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها قد سارعت إلى إيمانها الفطري، وإلى معرفتها بسنن الله تعالى في خلقه، وإلى يقينها بما يملك محمد صلى الله عليه وسلم من رصيد الأخلاق، وفضائل الشمائل، ليس لأحد من البشر رصيد مثله في حياته الطبيعية التي يعيش بها مع الناس، وإلى ما ألهمت بسوابق العناية الربانية التي شهدت آياتها من حفاوة الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم في مواقف, لم تكن من مواقف النبوة والرسالة، ولا من إرهاصاتها المعجزة، وأعاجيبها الخارقة، ولكنها كانت من مواقف الفضائل الإنسانية السارية في حياة ذوي المكارم، من أصحاب المروءات في خاصة البشر( ). (1/99)
كانت موقنة بأن زوجها فيه من خصال الجبلة الكمالية ومحاسن الأخلاق الرصينة، وفضائل الشيم المرضية، وأشرف الشمائل العلية، وأكمل النحائز الإنسانية ما يضمن له الفوز, ويحقق له النجاح والفلاح, فقد استدلت بكلماتها العميقة على الكمال المحمدي( ), فقد استنبطت خديجة رضي الله عنها من اتصاف محمد صلى الله عليه وسلم بتلك الصفات على أنه لن يتعرض في حياته للخزي قط؛ لأن الله تعالى فطره على مكارم الأخلاق، وضربت المثل بما ذكرته من أصولها الجامعة لكمالاتها. ولم تعرف الحياة في سنن الكون الاجتماعية أن الله تعالى جمَّل أحدًا من عباده بفطرة الأخلاق الكريمة، ثم أذاقه الخزي في حياته، ومحمد صلى الله عليه وسلم بلغ من المكارم ذروتها، فطرة فطره الله عليها، لا تُطاول ولا تُسامى( ). ولم تكتفِ خديجة رضي الله عنها بمكارم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم دليلاً على نبوته, بل ذهبت إلى ابن عمها العالم الجليل ورقة بن نوفل -رحمه الله- الذي كان ينتظر ظهور نبي آخر الزمان, لما عرفه من علماء أهل الكتاب, على دنو زمانه, واقتراب مبعثه، وكان لحديث ورقة أثر طيب في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه, وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الذي خاطبه هو صاحب السر الأعظم الذي يكون سفيرا بين الله تعالى وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ومن أشعار ورقة التي تدل على انتظاره لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم قوله: لَجِجت وكنت في الذكرى لجوجًا لَهمٍّ طالما بعث النَّشيجا ووصفٍ من خديجة بعد وصفٍ فقد طال انتظاري يا خديجا ببطن المكَّتين( ) على رجائي حديثك أن أرى منه خروجا بما خَبرَّتنا من قول قَس من الرهبان أكره أن يعوجا بأن محمدًا سيسود فينا ويَخْصِم من يكون له حجيجا( ) (1/100)
لقد صدَّق ورقة بن نوفل برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد له النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة فقد جاء في رواية أخرجها الحاكم بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين"( ). وعن عائشة رضي الله عنها أن خديجة رضي الله عنها سألت رسول الله عن ورقة فقال: "قد رأيته فرأيت عليه ثيابًا بيضًا، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض" قال الهيثمي: وروى أبو يعلى بسند حسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ورقة بن نوفل فقال: "أبصرته في بُطنان الجنة وعليه السندس"( ). لقد قامت خديجة رضي الله عنها بدور مهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لما لها من شخصية في مجتمع قومها، ولما جبلت عليه من الكفاءة في المجالات النفسية التي تقوم على الأخلاق العالية, من الرحمة والحلم والحكمة والحزم, وغير ذلك من مكارم الأخلاق, والرسول صلى الله عليه وسلم قد وفقه الله تعالى إلى هذه الزوجة المثالية؛ لأنه قدوة للعالمين وخاصة للدعاة إلى الله، فقيام خديجة بذلك الدور الكبير إعلام من الله تعالى لجميع حملة الدعوة الإسلامية بما يشرع لهم أن يسلكوه في هذا المجال من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتحقق لهم بلوغ المقاصد العالية التي يسعون لتحقيقها( ). (1/101)
إن السيدة خديجة رضي الله عنها مثال حسن, وقدوة رفيعة لزوجات الدعاة، فالداعية إلى الله ليس كباقي الرجال الذين هم بعيدون عن أعباء الدعوة، ومن الصعب أن يكون مثلهم في كل شيء، إنه صاحب همٍّ ورسالة، همٍّ على ضياع أمته، وانتشار الفساد، وزيادة شوكة أهله، وهمٍّ لما يصيب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من مؤامرات, وظلم وجوع، وإذلال، وما يصيب الدعاة منهم من تشريد وتضييق وتنكيل، وبعد ذلك هو صاحب رسالة واجب عليه تبليغها للآخرين، وهذا الواجب يتطلب وقتًا طويلاً يأخذ عليه أوقات نومه وراحته، وأوقات زوجته وأبنائه، ويتطلب تضحية بالمال والوقت والدنيا بأسرها ما دام ذلك في سبيل الله ومرضاته، وإن أوتيت الزوجة من الأخلاق والتقوى والجمال والحسب ما أوتيت، إنه يحتاج إلى زوجة تدرك واجب الدعوة وأهميته، وتدرك تمامًا ما يقوم به الزوج وما يتحمله من أعباء، وما يعانيه من مشاقّ, فتقف إلى جانبه تيسر له مهمته وتعينه عليها، لا أن تقف عائقا وشوكة في طريقه( ). إن المرأة الصالحة لها أثر في نجاح الدعوة، وقد اتضح ذلك في موقف خديجة رضي الله عنها وما قامت به من الوقوف بجانب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يواجه الوحي لأول مرة، ولا شك أن الزوجة الصالحة المؤهلة لحمل مثل هذه الرسالة لها دور عظيم في نجاح زوجها في مهمته في هذه الحياة، وبخاصة الأمور التي يعامل بها الناس، وإن الدعوة إلى الله تعالى هي أعظم أمر يتحمله البشر، فإذا وفق الداعية لزوجة صالحة ذات كفاءة فإن ذلك من أهم نجاحه مع الآخرين( ) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة"( ). سابعًا: وفاء النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة خديجة رضي الله عنها: (1/102)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالاً عاليًا للوفاء ورد الجميل لأهله، فقد كان في غاية الوفاء مع زوجته المخلصة, في حياتها وبعد مماتها، وقد بشرها صلى الله عليه وسلم ببيت في الجنة في حياتها، وأبلغها سلام الله جل وعلا, وسلام جبريل عليه السلام، فعن أبي هريرة t قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام -أو طعام أو شراب- فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها, عز وجل, ومني, وبشرها ببيت في الجنة من قصب( ) لا صخب فيه ولا نصب"( ). وتذكر عائشة رضي الله عنها وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة بعد وفاتها بقولها: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة, وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطّعها أعضاءً ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: "إنها كانت وكانت وكان لي منها الولد"( ). وأظهر صلى الله عليه وسلم البشاشة والسرور لأخت خديجة لما استأذنت عليه لتذكُّره خديجة, فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة( ) فارتاح لذلك، فقال: "اللهم هالة بنت خويلد" فغرت فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين( ) هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرًا منها ( )، وأظهر صلى الله عليه وسلم الحفاوة بامرأة كانت تأتيهم زمن خديجة وبين أن حفظ العهد من الإيمان( ). ثامنًا: سنة تكذيب المرسلين: (1/103)
(يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أَوَ مُخرجيّ هم؟" قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا) ( ) فقد بين الحديث سنة من سنن الأمم مع من يدعوهم إلى الله عز وجل وهي التكذيب والإخراج, كما قال تعالى عن قوم لوط: ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) [النمل: 56]. وكما قال قوم شعيب: ( قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ) [الأعراف: 88]. وقال تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ) [إبراهيم: 13]. تاسعًا: قوله "وفتر الوحي": تحدث علماء السيرة قديمًا وحديثًا عن فترة الوحي، فقال الحافظ ابن حجر: وفتور الوحي عبارة عن تأخيره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوق إلى العود( ). فعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث- أي بحديث النبي صلى الله عليه وسلم- عن فترة الوحي: "بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني فأنزل الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ` قُمْ فَأَنْذِرْ ` وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ` وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ` وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) [المدثر:1-5] فحمى الوحي وتتابع"( ). (1/104)
وقال صفي الرحمن المباركفوري: أما مدة فترة الوحي فاختلفوا فيها على عدة أقوال, والصحيح أنها كانت أيامًا, وقد روى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد ذلك ، وأما ما اشتهر من أنها دامت ثلاث سنين أو سنتين ونصف فليس بصحيح, وأما ما جاء بلاغًا أنه صلى الله عليه وسلم حزن حزنًا جعله يغدو ليتردى من شواهق الجبال، وأن جبريل عليه السلام كان يظهر له في كل مرة ويبشره بأنه رسول الله فمرسل ضعيف، كما أنه يتنافى مع عصمة النبي صلى الله عليه وسلم( ). ***
المبحث الثاني الدعوة السرية أولاً: الأمر الرباني بتبليغ الرسالة: عرف النبي صلى الله عليه وسلم معرفة اليقين أنه أصبح نبيا لله الرحيم الكريم، وجاء جبريل عليه السلام للمرة الثانية، وأنزل الله على نبيه قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ` قُمْ فَأَنْذِرْ ` وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ` وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) [المدثر: 1-4]. كانت هذه الآيات المتتابعة إيذانًا للرسول صلى الله عليه وسلم بأن الماضي قد انتهى بمنامه وهدوئه، وأنه أمامه عمل عظيم, يستدعي اليقظة والتشمير، والإنذار والإعذار، فليحمل الرسالة، وليوجه الناس، وليأنس بالوحي، وليقوَ على عنائه فإنه مصدر رسالته ومدد دعوته( ). وتعد هذه الآيات أول أمر بتبليغ الدعوة، والقيام بالتبعة، وقد أشارت هذه الآيات إلى أمور هي خلاصة الدعوة المحمدية، والحقائق الإسلامية التي بني عليها الإسلام كله، وهي الوحدانية, والإيمان باليوم الآخر، وتطهير النفوس، ودفع الفساد عن الجماعة، وجلب النفع( ). (1/105)
كانت هذه الآيات تهييجًا لعزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لينهض بعبء ما كُلِّفه من تبليغ رسالات ربه، فيمضي قُدمًا بدعوته، لا يبالي العقبات والحواجز، كان هذا النداء المتلطف ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) إيذانا بشحذ العزائم, وتوديعًا لأوقات النوم والراحة, وجاء عقب هذا النداء الأمر الجازم بالنهوض ( قُمْ ) في عزيمة ناهضة وقوة حازمة، تتحرك في اتجاه تحقيق واجب التبليغ، وفي مجيء الأمر بالإنذار منفردًا عن التبشير في أول خطاب وجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترة الوحي, إيذان بأن رسالته تعتمد على الكفاح الصبور، والجهاد المرير، ثم زادت الآيات في تقوية عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم، وشد أزره وحضه على المضي قدما إلى غاية ما أمر به، غير عابئ بما يعترض طريقه من عقبات مهما يكن شأنها فقيل له: ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) أي: لا تعظم شيئا من أمور الخلق, ولا يتعاظمك منهم شيء, فلا تتهيب فعلا من أفعالهم، ولا تخشى أحدًا منهم، ولا تعظم إلا ربك الذي تعهدك وأنت في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، فرباك على موائد فضله، ورعاك بإحسانه وجوده, حتى أخرجك للناس نبيًّا ورسولاً، بعد أن أعدّك خَلْقًا وخُلُقًا، لتحمل أمانة أعظم رسالاته، ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) فكل تعظيم وتكبير وإجلال حق لله تعالى وحده، لا يشاركه فيه أحد، أو شيء من مخلوقاته( ). (1/106)
وفي قوله: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) فكأنه قيل له صلى الله عليه وسلم: فأنت على طهرك وتطهرك بفطرتك في كمال إنسانيتك بما جبلك الله عليه من أكرم مكارم الأخلاق، وبما حباك به من نبوته ليعدَّك بها ليومك هذا, أحوج إلى أن تزداد في تطهرك النفسي، فتزداد من المكارم في حياتك مع الناس والأشياء، فأنت اليوم رسول الله إلى العالمين، وكمال الرسالة في كمال الخلق الاجتماعي, صبرًا، وحلمًا، وعفوًا، وإحسانًا ودُؤُوبًا على الجد في تبليغ الدعوة إلى الله تعالى, ولا يثنيك إيذاء, ولا يقعدك عن المضي إلى غايتك فادح البلاء( ). وفي قوله: ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) فكأنه قيل له صلى الله عليه وسلم: ليكن قصدك ونيتك في تركك ما تركت، فطرة وطبعًا هَجْرَه تكليفًا وتعبدًا لتكون قدوة أمتك، وعنوان تطهرها بهداية رسالتك( ). ثانيًا: بدء الدعوة السرية: بعد نزول آيات المدثر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله وإلى الإسلام سرًّا، وكان طبيعيًا أن يبدأ بأهل بيته، وأصدقائه، وأقرب الناس إليه. 1- إسلام السيدة خديجة رضي الله عنها: كان أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من النساء، بل أول من آمن به على الإطلاق السيدة خديجة رضي الله عنها، فكانت أول من استمع إلى الوحي الإلهي من فم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكانت أول من تلا القرآن بعد أن سمعته من صوت الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وكانت كذلك أول من تعلم الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيتها هو أول مكان تُلي فيه أول وحي نزل به جبريل على قلب المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم بعد غار حراء( ). (1/107)
كان أول شيء فرضه الله من الشرائع بعد الإقرار بالتوحيد إقامة الصلاة، وقد جاء في الأخبار حديث تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم زوجه خديجة الوضوء والصلاة, حين افترضت على رسول الله؛ أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين, فتوضأ جبريل عليه السلام, والرسول ينظر ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل توضأ، ثم قام جبريل عليه السلام فصلى به وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بصلاته، ثم انصرف جبريل عليه السلام فجاء رسول الله خديجة فتوضأ لها, يريها كيف الطهور للصلاة، كما أراه جبريل عليه السلام، فتوضأت كما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صلى به جبريل عليه السلام( ). 2- إسلام علي بن أبي طالب t: وبعد إيمان السيدة خديجة دخل علي بن أبي طالب في الإسلام، وكان أول من آمن من الصبيان، وكانت سنه إذ ذاك عشر سنين على أرجح الأقوال، وهو قول الطبري وابن إسحاق( )، وقد أنعم الله عليه بأن جعله يتربى في حجر رسوله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام, حيث أخذه من عمه أبي طالب وضمه إليه.( ) وكان علي t ثالث من أقام الصلاة بعد رسول الله وبعد خديجة رضي الله عنها( ). وقد ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيًا من أبيه، ومن جميع أعمامه, وسائر قومه, فيصليان الصلوات فيها, فإذا أمسيا رجعا, ليضمهما ذلك البيت الطاهر التقي بالإيمان, المفعم بصدق الوفاء وكرم المنبت( ). 3- إسلام زيد بن حارثة t: (1/108)
هو أول من آمن بالدعوة من الموالي( ) حِبّ النبي صلى الله عليه وسلم ومولاه، ومُتَبنَّاه: زيد بن حارثة الكلبي, الذي آثر رسولَ الله على والده وأهله، عندما جاءوا إلى مكة لشرائه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فترك رسول الله الأمر لحارثة فقال زيد لرسول الله: ما أنا بالذي أختار عليك أحدًا، وأنت مني بمنزلة الأب والعم، فقال له والده وعمه: ويحك تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: نعم، وإني رأيت من هذا الرجل شيئًا ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا أبدًا( ). 4- إسلام بنات النبي صلى الله عليه وسلم: وكذلك سارع إلى الإسلام بنات النبي صلى الله عليه وسلم، كل من زينب، وأم كلثوم، وفاطمة ورقية، فقد تأثرن قبل البعثة بوالدهن صلى الله عليه وسلم في الاستقامة وحسن السيرة، والتنزه عما كان يفعله أهل الجاهلية، من عبادة الأصنام والوقوع في الآثام، وقد تأثرن بوالدتهن، فأسرعن إلى الإيمان( )، وبذلك أصبح بيت النبي صلى الله عليه وسلم أول أسرة مؤمنة بالله تعالى منقادة لشرعه في الإسلام، ولهذا البيت النبوي الأول مكانة عظمى في تاريخ الدعوة الإسلامية, لما حباه الله به من مزايا وخصه بشرف الأسبقية في الإيمان وتلاوة القرآن وإقام الصلاة فهو: ? أول مكان تُلي فيه وحي السماء بعد غار حراء. ? وهو أول بيت ضم المؤمنة الأولى سابقة السبق إلى الإسلام. ? وهو أول بيت أقيمت فيه الصلاة. ? وهو أول بيت اجتمع فيه المؤمنون الثلاثة السابقون إلى الإسلام، خديجة وعلي وزيد بن حارثة. ? وهو أول بيت تعهد بالنصرة، ولم يتقاعس فيه فرد من أفراده كبارا أو صغارا عن مساندة الدعوة( ). (1/109)
يحق لهذا البيت أن يكون قدوة، ويحق لربته أن تكون مثالاً ونموذجًا حيًّا لبيوت المسلمين ولنسائهم ورجال المؤمنين كافة، فالزوجة فيه طاهرة مؤمنة, مخلصة, وزيرة الصدق والأمان، وابن العم المحضون والمكفول, مستجيب ومعضد ورفيق، والمتبنى مؤمن صادق مساعد ومعين، والبنات مصدقات مستجيبات مؤمنات ممتثلات( ). وهكذا كان للبيت النبوي مكانته الأولى, والواجب يدعو إلى أن يكون قدوتنا والأنموذج الذي نسير على هديه في المعاشرة, ومثالية السلوك بالصدق والتصديق، في الاستجابة والعمل لكل من آمن بالله ربًّا وبمحمد نبيًّا ورسولاً( ). إن الحقيقة البارزة في المنهج الرباني تشير إلى أهمية بناء الفرد الصالح والأسرة الصالحة، كأول حلقة من حلقات الإصلاح، والبناء، ثم المجتمع الصالح، ولقد تجلت عناية الإسلام بالفرد المسلم وتكوينه ووجوب أن يسبق أي عمل آخر، فالفرد المسلم هو حجر الزاوية في أي بناء اجتماعي, ولما كانت الأسرة التي تستقبل الفرد منذ ولادته وتستمر معه مدة طويلة من حياته، بل هي التي تحيط به طوال حياته، فهي المحضن المتقدم الذي تتحدد به معالم الشخصية وخصائصها وصفاتها، كما أنها الوسيط بين الفرد والمجتمع، فإذا كان هذا الوسط سليمًا قويًّا أمد طرفيه -الفرد والمجتمع- بالسلامة والقوة( ). ولهذا اهتم الإسلام بالأسرة واتجه إليها, يضع لها الأسس التي تكفل قيامها ونموها نموًّا سليمًا، ويوجهها الوجهة الربانية لتكون حلقة قوية في بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية التي تسعى لصناعة الحضارة الربانية في دنيا الناس( ). 5- إسلام أبي بكر الصديق t: (1/110)
كان أبو بكر الصديق t أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من الرجال الأحرار، والأشراف، فهو من أخص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة, وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة، وتردد ونظر، إلا أبا بكر، ما عكم( ) حين دعوته ولا تردد فيه"( )، فأبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو حسنة من حسناته عليه الصلاة والسلام, لم يكن إسلامه إسلام رجل، بل كان إسلامه إسلام أمة، فهو في قريش كما ذكر ابن إسحاق في موقع العين منها: ? كان رجلا مألفًا لقومه محببًا سهلاً. ? وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها, وبما كان فيها من خير وشر. ? وكان رجلاً تاجرًا. ? ذا خلق ومعروف. ? وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر, لعلمه وتجارته، وحسن مجالسته( ). (1/111)
لقد كان أبو بكر كنزًا من الكنوز، ادخره الله تعالى لنبيه، وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه, جعله من الموطئين أكنافا، من الذين يألفون ويؤلفون، والخلق السمح وحده عنصر كافٍ لألفة القوم, وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر" ( ) وعلم الأنساب عند العرب، وعلم التاريخ هما أهم العلوم عندهم، ولدى أبي بكر الصديق t النصيب الأوفر منهما، وقريش تعترف للصديق بأنه أعلمها بأنسابها، وأعلمها بتاريخها، وما فيه من خير وشر فالطبقة المثقفة ترتاد مجلس أبي بكر لتنهل منه علمًا لا تجده عند غيره غزارة ووفرة وسعة، ومن أجل هذا كان الشباب النابهون، والفتيان الأذكياء يرتادون مجلسه دائمًا، إنهم الصفوة الفكرية المثقفة التي تود أن تلقى عنده هذه العلوم، وهذا جانب آخر من جوانب عظمته، وطبقة رجال الأعمال، ورجال المال في مكة، هي كذلك من رواد مجلس الصديق، فهو إن لم يكن التاجر الأول في مكة، فهو من أشهر تجارها، فأرباب المصالح هم كذلك قصاده، ولطيبته وحسن خلقه تلقى عوام الناس يرتادون بيته، فهو المضياف الدمث الخلق، الذي يفرح بضيوفه، ويأنس بهم، فكل طبقات المجتمع المكي تجد حظها عند الصديق رضوان الله عليه( ) كان رصيده الأدبي والعلمي والاجتماعي في المجتمع المكي عظيما، ولذلك عندما تحرك في دعوته للإسلام استجاب له صفوة من خيرة الخلق وهم: ? عثمان بن عفان t في الرابعة والثلاثين من عمره. ? عبد الرحمن بن عوف t في الثلاثين من عمره. ? سعد بن أبي وقاص t وكان في السابعة عشرة من عمره. ? والزبير بن العوام t وكان في الثانية عشرة من عمره. ? وطلحة بن عبيد الله t وكان في الثالثة عشرة من عمره( ). (1/112)
كان هؤلاء الأبطال الخمسة أول ثمرة من ثمار الصديق أبي بكر t, دعاهم إلى الإسلام فاستجابوا، وجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرادى، فأسلموا بين يديه، فكانوا الدعامات الأولى التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العدة الأولى في تقوية جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهم أعزه الله وأيده, وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، رجالا | |
| | | ابو مسلم عضز فعال
عدد الرسائل : 51 تاريخ التسجيل : 03/12/2008
| موضوع: رد: السيرة النبوية المطهرة الخميس مارس 25, 2010 8:51 pm | |
| ونساءً، وكان كل من هؤلاء الطلائع داعية إلى الإسلام، وأقبل معهم رعيل السابقين، الواحد، والاثنين، والجماعة القليلة، فكانوا على قلة عددهم كتيبة الدعوة، وحصن الرسالة لم يسبقهم سابق ولا يلحق بهم لاحق في تاريخ الإسلام( ). إن تحرك أبي بكر t في الدعوة إلى الله تعالى يوضح صورة من صور الإيمان بهذا الدين والاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم, صورة المؤمن الذي لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال، حتى يحقق في دنيا الناس ما آمن به، دون أن تكون انطلاقته دفعة عاطفية مؤقتة سرعان ما تخمد وتذبل وتزول، وقد بقي نشاط أبي بكر وحماسته إلى أن توفاه الله جل وعلا لم يفتر أو يضعف أو يمل أو يعجز. ونلاحظ أن أصحاب الجاه لهم أثر كبير في كسب أنصار للدعوة، ولهذا كان أثر أبي بكر t في الإسلام أكثر من غيره( ). بعد أن كانت صحبة الصديق لرسول الله، مبنية على مجرد الاستئناس النفسي والخلقي, صارت الأنسة بالإيمان بالله وحده، وبالمؤازرة في الشدائد، واتخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام من مكانة أبي بكر، وأُنس الناس به ومكانته عندهم قوة لدعوة الحق، فوق ما كان له عليه الصلاة والسلام من قوة نفس، ومكانة عند الله وعند الناس( ). ومضت الدعوة سرية وفردية على الاصطفاء, والاختيار للعناصر التي تصلح أن تتكون منها الجماعة المؤمنة, التي ستسعى لإقامة دولة الإسلام ودعوة الخلق إلى دين رب العباد والتي ستقيم حضارة ربانية ليس لها مثيل. 6- الدفعة الثانية: (1/113)
جاء دور الدفعة الثانية، بعد إسلام الدفعة الأولى، فأول من أسلم من هذه الدفعة: أبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن مخزوم بن مرة ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم (برة بنت عبد المطلب) وأخوه من الرضاع، والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وعثمان بن مظعون الجمحي، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وقدامة وعبد الله ابنا مظعون، وفاطمة بنت الخطاب بن نفيل أخت عمر بن الخطاب، وزوجة سعيد بن زيد، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وخباب بن الأرت حليف بني زهرة( ). 7- الدفعة الثالثة: أسلم عمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود بن الحارث بن شمخ بن مخزوم.. بن هذيل, ومسعود بن القاري، وهو مسعود بن ربيعة، بن عمرو، بن سعيد بن عبد العزى، بن حمالة بن القارة. وأسلم سليط بن عمرو، وأخوه حاطب بن عمرو، وعياش بن أبي ربيعة، وامرأته أسماء بنت سلامة، وخنيس بن حذافة السهمي، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب وعبد الله بن جحش وأخوه أحمد، وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، وحاطب بن الحارث، وامرأته فاطمة بنت المجلل، وأخوه حطاب بن الحارث, وامرأته فُكَيهة بنت يسار وأخوهما مَعْْمَر بن الحارث، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمطلب ابن أزهر، وامرأته رملة بنت أبي عوف، والنحَّام بن عبد الله بن أسيد، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وفهيرة وأمه، وكان عبدًا للطفيل بن الحارث بن سخبرة، فاشتراه الصديق وأعتقه، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وامرأته أُمَينة بنت خلف، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وواقد بن عبدالله بن عبد مناف، وخالد وعامر وعاقل وإياس بنو البكير بن عبد ياليل، وعمار بن ياسر حليف بني مخزوم بن يقظة، وقال ابن هشام: عَنْسي من مَذْحج. وصهيب بن سنان, هو (سابق الروم). (1/114)
ومن السابقين إلى الإسلام: أبو ذر الغفاري، وأخوه أنيس، وأمه( ). ومن أوائل السابقين: بلال بن رباح الحبشي. وهؤلاء السابقون من جميع بطون قريش, عدهم ابن هشام أكثر من أربعين نفرًا( ). وقال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام في مكة، وتُحدِّث به( ). ويتضح من عرض الأسماء السابقة، أن السابقين الأولين إلى الإسلام كانوا خيرة أقوامهم، ولم يكونوا كما يقول بعض الباحثين في السيرة:إنهم من حثالة الناس، أو من الأرقاء الذين أرادوا استعادة حريتهم أو ما شابه ذلك- وجانب الصواب بعض كُتَّاب السيرة لدى حديثهم عن السابقين الأولين إلى الإسلام، عندما وصفوهم بأن معظمهم كان خليطًا من الفقراء والضعفاء والأرقاء فما الحكمة في ذلك؟). وبقولهم: كان رصيد هذه الدعوة بعد سنوات ثلاث من بدايتها, أربعين رجلاً وامرأة, عامتهم من الفقراء والمستضعفين والموالي والأرقاء، وفي مقدمتهم أخلاط من مختلف الأعاجم: صهيب الرومي وبلال الحبشي) إن البحث الدقيق يثبت أن مجموع من أشير إليهم بالفقراء والمستضعفين والموالي والأرقاء والأخلاط من مختلف الأعاجم هو ثلاثة عشر، ونسبة هذا العدد من العدد الكلي من الداخلين في الإسلام لا يقال "أكثرهم" ولا "معظمهم" ولا "عامتهم". إن الذين أسلموا يومئذ لم يكن يدفعهم دافع دنيوي، وإنما هو إيمانهم بالحق الذي شرح الله صدورهم له, ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم, يشترك في ذلك الشريف والرقيق، والغني والفقير, ويتساوى في هذا أبو بكر وبلال وعثمان وصهيب( )، رضي الله عنهم. (1/115)
ويقول الأستاذ صالح الشامي: نحن لا نريد أن ننفي وجود الضعفاء والأرقاء ولكن نريد أن ننفي أن يكونوا هم الغالبية - لأن هذا مخالف للحقائق الثابتة - ولو كانوا كذلك لكانت دعوة طبقية, يقوم فيها الضعفاء والأرقاء ضد الأقوياء وأصحاب السلطة والنفوذ، ككل الحركات التي تقاد من خلال البطون، إن هذا لم يدر بخلد أي من المسلمين وهو يعلن إسلامه، إنهم يدخلون في هذا الدين على اعتبارهم إخوة في ظل هذه العقيدة، عبادا لله، وإنه لمن القوة لهذه الدعوة أن يكون غالبية أتباعها في المرحلة الأولى بالذات من كرام أقوامهم، وقد آثروا في سبيل العقيدة أن يتحملوا أصنافًا من الهوان ما سبق لهم أن عانوها أو فكروا بها( ). لقد كان الإسلام ينساب إلى النفوس الطيبة, والعقول النيرة, والقلوب الطاهرة التي هيأها الله لهذا الأمر، ولقد كان في الأوائل خديجة وأبو بكر وعلى وعثمان والزبير، وعبد الرحمن وطلحة، وأبو عبيدة وأبو سلمة والأرقم وعثمان بن مظعون، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن جحش، وجعفر بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص، وفاطمة بنت الخطاب وخالد بن سعيد، وأبو حذيفة بن عتبة وغيرهم، رضي الله عنهم, وهم من سادة القوم وأشرافهم( ). هؤلاء هم السابقون الأولون الذين سارعوا إلى الإيمان والتصديق بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم. ثالثًا: استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة: (1/116)
استمر النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته السرية, يستقطب عددا من الأتباع والأنصار من أقاربه وأصدقائه، وخاصة الذين يتمكن من ضمهم في سرية تامة, بعد إقناعهم بالإسلام، وهؤلاء كانوا نعم العون والسند للرسول صلى الله عليه وسلم لتوسيع دائرة الدعوة في نطاق السرية, وهذه المرحلة العصيبة من حياة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ظهرت فيها الصعوبة والمشقة, في تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه بالدعوة، فهم لا يخاطبون إلا من يأمنوا من شره، ويثقون به، وهذا يعني أن الدعوة خطواتها بطيئة وحذرة, كما تقتضي صعوبة المواظبة على تلقي مطالب الدعوة من مصدرها، وصعوبة تنفيذها، إذا كان الداخل في هذا الدين ملزمًا منذ البداية بالصلاة, ودراسة ما تيسر من القرآن -مثلا- ولم يكن يستطيع أن يصلي بين ظهراني قومه، ولا أن يقرأ القرآن، فكان المسلمون يتخفون في الشعاب والأودية إذا أرادوا الصلاة( ). 1- الحس الأمني: إن من معالم هذه المرحلة، الكتمان والسرية حتى عن أقرب الناس، وكانت الأوامر النبوية على وجوب المحافظة على السرية واضحة وصارمة، وكان صلى الله عليه وسلم يكوّن من بعض المسلمين أُسرًا (مجموعات) وكانت هذه الأسر تختفي اختفاء استعداد وتدريب, لا اختفاء جبن وهروب حسب ما تقتضيه التدبيرات، فبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام ينظم أصحابه من أسر ومجموعات صغيرة، فكان الرجل يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما, عند الرجل به قوة وسعة من المال، فيكونان معه ويصيبان منه فضل طعامه، ويجعل منهم حلقات, فمن حفظ شيئًا من القرآن علم من لم يحفظ، فيكون من هذه الجماعات أسر أخوة، وحلقات تعليم. (1/117)
إن المنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية أتباعه هو: القرآن الكريم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه تربية شاملة في العقائد والعبادات والأخلاق والحس الأمني وغيرها؛ ولذلك نجد في القرآن الكريم آيات كريمة تحدثت عن الأخذ بالحس الأمني؛ لأن من أهم عوامل نهوض الأمة أن ينشأ الحس الأمني في جميع أفرادها، وخصوصا في الصف المنظم الذي يدافع عن الإسلام, ويسعى لتمكينه في دنيا الناس، ولذلك نجد النواة الأولى للتربية الأمنية كانت في مكة, وتوسعت مع توسع الدعوة ووصولها إلى دولة. ولا شك أن الصحابة كانوا يجمعون المعلومات عمن يريدون دعوته للإسلام وكانت القيادة تشرف على ذلك، ولذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم بترتيب جهاز أمني رفيع يشرف على الاتصال المنظم بين القيادة والقواعد ليضمن تحقيق مبدأ السرية. إن السيرة النبوية غنية في أبعادها الأمنية, منذ تربية الأفراد, وحتى بعد قيام الدولة، وتظهر الحاجة للحركات الإسلامية والدول المسلمة, لإيجاد أجهزة أمنية متطورة (في زمننا المعاصر) تحمي الإسلام والمسلمين من أعدائها اليهود والنصارى والملاحدة، وتعمل على حماية الصف المسلم في الداخل من اختراقات الأعداء فيه، وتجتهد لرصد أعمال المعارضين والمحاربين للإسلام، حتى تستفيد القيادة من المعلومات التي تقدمها لها أجهزتها المؤمنة الأمنية، ولا بد أن تؤسس هذه الأجهزة على قواعد منبعها القرآن الكريم والسنة النبوية، وتكون أخلاق رجالها قمة رفيعة تمثل صفات رجال الأمن المسلمين. إن اهتمام المسلمين بهذا الأمر يجنبهم المفاجآت العدوانية "إذا عرفت العدو وعرفت نفسك, فليس هناك ما يدعوك إلى أن تخاف نتائج مائة معركة، وإذا عرفت نفسك, ولم تعرف العدو فإنك ستواجه الهزيمة في كل معركة"( ). (1/118)
كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرف بنفسه على تربية أصحابه في كافة الجوانب، ووزعهم في أسر، فمثلا كانت فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد، وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، كانوا في أسرة واحدة مع نعيم بن عبد الله النحام بن عدي، وكان معلمهم خباب بن الأرت، وكان اشتغالهم بالقرآن لا يقتصرون منه على تجويد تلاوته وضبط مخارج حروفه ولا على الاستكثار من سرده، والإسراع في قراءته, بل كان همهم دراسته وفهمه, ومعرفة أمره ونهيه والعمل به( ). كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بالتخطيط الدقيق المنظم ويحسب لكل خطوة حسابها، وكان مدركًا تمامًا أنه سيأتي اليوم الذي يؤمر فيه بالدعوة علنًا وجهرًا، وأن هذه المرحلة سيكون لها شدتها وقوتها، فحاجة الجماعة المؤمنة المنظمة تقتضي أن يلتقي الرسول المربي مع أصحابه، فكان لا بد من مقر لهذا الاجتماع، فقد أصبح بيت خديجة رضي الله عنها لا يتسع لكثرة الأتباع، فوقع اختيار النبي وصحبه على دار الأرقم بن أبي الأرقم، إذ أدرك الرسول عليه الصلاة والسلام أن الأمر يحتاج إلى الدقة المتناهية في السرية والتنظيم، ووجوب التقاء القائد المربي بأتباعه في مكان آمن بعيد عن الأنظار، ذلك أن استمرار اللقاءات الدورية المنظمة بين القائد وجنوده, خير وسيلة للتربية العملية والنظرية، وبناء الشخصية القيادية الدعوية. ومما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعد أتباعه ليكونوا بناة الدولة وحملة الدعوة، وقادة الأمم, هو حرصه الشديد على هذا التنظيم السري الدقيق، فلو كان مجرد داعية لما احتاج الأمر إلى كل هذا. ولو كان يريد مجرد إبلاغ الدعوة للناس لكان خير مكان في الكعبة حيث منتدى قريش كلها، ولكن الأمر -غير ذلك- فلابد من السرية التامة في التنظيم، وفي المكان الذي يلتقي فيه مع أصحابه، وفي الطريقة التي يحضرون بها إلى مكان اللقاء( ). 2- دار الأرقم بن أبي الأرقم (مقر القيادة): (1/119)
تذكر كتب السيرة أن اتخاذ دار الأرقم مقرًا لقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعد المواجهة الأولى, التي برز فيها سعد بن أبي وقاص t. قال ابن إسحاق: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينما سعد بن أبي وقاص t في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِعب من شعاب مكة إذ ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بلَحي بعير فشجه، فكان أول دم أهريق في الإسلام" ( ). أصبحت دار الأرقم السرية مركزًا جديدًا للدعوة يتجمع فيه المسلمون، ويتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جديد من الوحي، ويستمعون له -عليه الصلاة والسلام- وهو يذكرهم بالله، ويتلو عليهم القرآن، ويضعون بين يديه كل ما في نفوسهم وواقعهم فيربيهم, عليه الصلاة والسلام على عينه. كما تربى هو على عين الله عز وجل، وأصبح هذا الجمع هو قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم( ). رابعًا: أهم خصائص الجماعة الأولى التي تربت على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كانت الجماعة الأولى التي تربت على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد برزت فيها خصائص مهمة جعلتها تتقدم بخطوات رصينة نحو صياغة الشخصية المسلمة، التي تقيم الدولة المؤمنة، وتصنع الحضارة الرائعة، فمن أبرز هذه الخصائص: 1- الاستجابة الكاملة للوحي، وعدم التقديم بين يديه: إن العلم والفقه الصحيح الكامل في العقائد والشرائع, والآداب وغيرها لا يكون إلا عن طريق الوحي المنزل, قرآنًا وسنة؛ والتزام الدليل الشرعي هو منهج الذين أنعم الله عليهم بالإيمان الصحيح( ) قال تعالى: ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) [الأعراف: 181]. (1/120)
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم من غيرهم انتفاعا بالدليل والوحي، وتسليمًا له، لأسباب عديدة، منها: أ- نزاهة قلوبهم، وخلوها من كل ميل أو هوى غير ما جاءت به النصوص، واستعدادها التام لقبول ما جاء عن الله ورسوله والإذعان والانقياد له انقيادا مطلقا، دون حرج ولا تردد، ولا إحجام. ب- معاصرتهم لوقت التشريع ونزول الوحي، ومصاحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم, ولذلك كانوا أعلم الناس بملابسات الأحوال التي نزلت النصوص فيها، والعلم بملابسات الواقعة أو النص من أعظم أسباب فقهه وفهمه وإدراك مغزاه. ج- وكانت النصوص -قرآنًا وسنة- تأتي في كثير من الأحيان لأسباب تتعلق بهم -بصورة فردية، أو جماعية- فتخاطبهم خطابًا مباشرًا، وتؤثر فيهم أعظم التأثير؛ لأنها تعالج أحداثًا واقعية، وتعقب في حينها، حيث تكون النفوس مشحونة بأسباب التأثر متهيئة لتلقي الأمر والاستجابة له. فكانوا إذا سمعوا أحدا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارهم، كما يقول ابن عباس t( ). 2- التأثر الوجداني العميق بالوحي والإيمان: كان الصحابة يتعاملون مع العلم الصحيح ليس كحقائق علمية مجردة يتعامل معها العقل فحسب، دون أن يكون لها علاقة بالقلب والجوارح، فقد أورثهم العلم بالله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله: محبته والتأله إليه، والشوق إلى لقائه, والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم في جنة عدن، وأورثهم تعظيمه، والخوف منه، والحذر من بأسه وعقابه، وبطشه ونقمته وأورثهم رجاء ما عنده، والطمع في جنته ورضوانه، وحسن الظن به، فاكتملت لديهم بذلك آثار العلم بالله والإيمان به، وهذه المعاني الوجدانية هي المقصود الأعظم في تحصيل العلم، وإذا فقدت، فلا ينفع مع فقدها علم، بل هو ضرر في العاجل والآجل( ). (1/121)
وكان الصحابة فرسانًا بالنهار، ورهبانا بالليل، لا يمنعهم علمهم وإيمانهم وخشوعهم لله من القيام بشؤونهم الدنيوية، من بيع، وشراء، وحرث، ونكاح، وقيام على الأهل والأولاد وغيرهم فيما يحتاجون. خامسًا: شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وأثرها في صناعة القادة: كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم أعظم مدرسة للتربية والتعليم عرفتها البشرية, كيف لا، وأستاذها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أستاذ البشرية كلها، وتلاميذها هم الدعاة والهداة، والقادة الربانيون, الذين حرروا البشرية من رق العبودية وأخرجوهم من الظلمات إلى النور، بعد أن رباهم الله تعالى على عينه تربية غير مسبوقة ولا ملحوقة( ). في دار الأرقم وفق الله تعالى رسوله إلى تكوين الجماعة الأولى من الصحابة, حيث قاموا بأعظم دعوة عرفتها البشرية. لقد استطاع الرسول المربي الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يربي في تلك المرحلة السرية، وفي دار الأرقم أفذاذ الرجال الذين حملوا راية التوحيد، والجهاد والدعوة فدانت لهم الجزيرة، وقاموا بالفتوحات العظيمة في نصف قرن. كانت قدرة النبي صلى الله عليه وسلم فائقة في اختيار العناصر الأولى للدعوة في خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر الدعوة، وتربيتهم وإعدادهم إعدادا خاصا ليؤهلهم لاستلام القيادة، وحمل الرسالة، فالرسالات الكبرى والأهداف الإنسانية العظمى لا يحملها إلا أفذاذ الرجال، وكبار القادة, وعمالقة الدعاة. (1/122)
كانت دار الأرقم مدرسة من أعظم مدارس الدنيا وجامعات العالم، التقى فيها الرسول المربي بالصفوة المختارة من الرعيل الأول (السابقين الأولين) فكان ذلك اللقاء الدائم تدريبًا عمليًا لجنود المدرسة على مفهوم الجندية والسمع والطاعة والقيادة وآدابها وأصولها، ويشحذ فيه القائد الأعلى جنده وأتباعه بالثقة بالله والعزيمة والإصرار، ويأخذهم بالتزكية والتهذيب، والتربية والتعليم، كان هذا اللقاء المنظم يشحذ العزائم، ويقوي الهمم، ويدفع إلى البذل والتضحية والإيثار( ). كانت نقطة البدء في حركة التربية الربانية الأولى لقاء المدعو بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيحدث للمدعو تحول غريب, واهتداء مفاجئ بمجرد اتصاله بالنبي صلى الله عليه وسلم, فيخرج المدعو من دائرة الظلام إلى دائرة النور، ويكتسب الإيمان ويطرح الكفر، ويقوى على تحمل الشدائد والمصائب في سبيل دينه الجديد وعقيدته السمحة. (1/123)
كانت شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم المحرك الأول للإسلام، وشخصيته صلى الله عليه وسلم تملك قوى الجذب والتأثير على الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض, والعظمة دائما تُحب، وتحاط من الناس بالإعجاب، ويلتف حولها المعجبون, يلتصقون بها التصاقًا بدافع الإعجاب والحب، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيف إلى عظمته تلك، أنه رسول الله، متلقي الوحي من الله، ومبلغه إلى الناس، وذلك بُعد آخر له أثر في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه, فهو لا يحبه لذاته فقط كما يحب العظماء من الناس، ولكن أيضا لتلك النفحة الربانية التي تشمله من عند الله، فهو معه في حضرة الوحي الإلهي المكرم، ومن ثم يلتقي في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم البشر العظيم والرسول العظيم، ثم يصبحان شيئًا واحدًا في النهاية، غير متميز البداية ولا النهاية، حب عميق شامل للرسول البشر, أو للبشر الرسول, ويرتبط حب الله بحب رسوله ويمتزجان في نفسه، فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلها، ومحور الحركة الشعورية والسلوكية كلها كذلك. كان هذا الحب -الذي حرك الرعيل الأول من الصحابة- هو مفتاح التربية الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطلقها الذي تنطلق منه( ). سادسًا: المادة الدراسية في دار الأرقم: (1/124)
كانت المادة الدراسية التي قام بتدريسها النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم القرآن الكريم, فهو مصدر التلقي الوحيد، فقد حرص الحبيب المصطفى على توحيد مصدر التلقي وتفرده، وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج والفكرة المركزية التي يتربى عليها الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، وكان روح القدس | |
| | | ابو مسلم عضز فعال
عدد الرسائل : 51 تاريخ التسجيل : 03/12/2008
| موضوع: رد: السيرة النبوية المطهرة الخميس مارس 25, 2010 8:52 pm | |
| | |
| | | البخاري مشرف
عدد الرسائل : 203 تاريخ التسجيل : 03/12/2008
| موضوع: رد: السيرة النبوية المطهرة الخميس مارس 25, 2010 9:00 pm | |
| | |
| | | ابو مسلم عضز فعال
عدد الرسائل : 51 تاريخ التسجيل : 03/12/2008
| موضوع: رد: السيرة النبوية المطهرة الخميس مارس 25, 2010 9:07 pm | |
| ينزل بالآيات غضة طرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسمعها الصحابة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، فتسكب في قلوبهم، وتتسرب في أرواحهم، وتجري في عروقهم مجرى الدم، وكانت قلوبهم وأرواحهم تتفاعل مع القرآن وتنفعل به، فيتحول الواحد منهم إلى إنسان جديد, بقيمه ومشاعره، وأهدافه، وسلوكه وتطلعاته، لقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم حرصًا شديدًا على أن يكون القرآن الكريم وحده هو المادة الدراسية، والمنهج الذي تتربى عليه نفوس أصحابه, وألا يختلط تعليمه بشيء من غير القرآن( ). لقد تلقى الرعيل الأول القرآن الكريم بجدية ووعي, وحرص شديد, على فهم توجيهاته، والعمل بها بدقة تامة، فكانوا يلتمسون من آياته ما يوجههم في كل شأن من شؤون حياتهم الواقعية، والمستقبلية. فنشأ الرعيل الأول على توجيهات القرآن الكريم، وجاؤوا صورة عملية لهذه التوجيهات الربانية، فالقرآن كان هو المدرسة الإلهية، التي تخرج فيها الدعاة والقادة الربانيون، ذلك الجيل الذي لم تعرف له البشرية مثيلاً من قبل ومن بعد, لقد أنزل الله القرآن الكريم على قلب رسوله، لينشئ به أمة ويقيم به دولة، وينظم به مجتمعًا, وليربي به ضمائرَ وأخلاقًا وعقولاً، ويبني به عقيدة وتصورًا وأخلاقًا، ومشاعرَ، فخرّج الجماعة المسلمة الأولى التي تفوقت على سائر المجتمعات في جميع المجالات، العقدية، والروحية والخلقية، والاجتماعية والسياسية والحربية( ). سابعًا: الأسباب في اختيار دار الأرقم: كان اختيار دار الأرقم لعدة أسباب منها: (1/125)
1- أن الأرقم لم يكن معروفًا بإسلامه، فما كان يخطر ببال أحد أن يتم لقاء محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بداره. 2- أن الأرقم بن الأرقم t من بني مخزوم, وقبيلة بني مخزوم هي التي تحمل لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم. فلو كان الأرقم معروفا بإسلامه فلا يخطر في البال أن يكون اللقاء في داره؛ لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو. 3- أن الأرقم بن أبي الأرقم كان فتى عند إسلامه، فلقد كان في حدود السادسة عشرة من عمره، ويوم تفكر قريش في البحث عن مركز التجمع الإسلامي, فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بل يتجه نظرها وبحثها إلى بيوت كبار أصحابه، أو بيته هو نفسه عليه الصلاة والسلام. فقد يخطر على ذهنهم أن يكون مكان التجمع على الأغلب في دور بني هاشم، أو في بيت أبي بكر t أو غيره، ومن أجل هذا نجد أن اختيار هذا البيت كان في غاية الحكمة من الناحية الأمنية، ولم نسمع أبدا أن قريشًا داهمت ذات يوم هذا المركز وكشفت مكان اللقاء( ). ثامنًا: من صفات الرعيل الأول: كانت الفترة الأولى من عمر الدعوة, تعتمد على السرية والفردية, وكان التخطيط النبوي دقيقًا ومنظمًا، وكان تخطيطًا سياسيًا محكمًا، فما كان اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم لدار الأرقم لمجرد اجتماع المسلمين فيها لسماع نصائح ومواعظ وإرشادات، وإنما كانت مركزًا للقيادة، ومدرسة للتعليم والتربية والإعداد والتأهيل للدعوة والقيادة، بالتربية الفردية العميقة الهادئة، وتعهد بعض العناصر والتركيز عليها تركيزًا خاصًّا، لتأهيلها لأعباء الدعوة والقيادة، فكان الرسول المربي قد حدد لكل فرد من هؤلاء عمله بدقة وتنظيم حكيم، اشترك في ذلك الكل، الكل يعرف دوره المنوط به، والكل يدرك طبيعة الدعوة والمرحلة التي تمر بها، والكل ملتزم جانب الحيطة والحذر والسرية والانضباط التام( ). (1/126)
كان بناء الجماعة المؤمنة في الفترة المكية يتم بكل هدوء وتدرج وسرية, وكان شعار هذه المرحلة هو توجيه المولى عز وجل المتمثل في قوله تعالى: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) [الكهف: 28]. فالآية الكريمة تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر على تقصير وأخطاء المستجيبين لدعوته، وأن يصبر على كثرة تساؤلاتهم, خاصة إن كانت خاطئة، وأن يصبر على ترددهم في قبول التوجيهات، وأن يجتهد في تصبيرهم على فتنة أعداء الدعوة، وأن يوضح لهم طبيعة طريق الدعوة، وأنها شاقة، وأن لا يغرر به مغرر ليبعده عنهم، وأن لا يسمع فيهم منتقصًا، ولا يطيع فيهم متكبرًا, أغفل الله قلبه عن حقيقة الأمور وجوهرها( ). إن الآيات الكريمة السابقة من سورة الكهف تصف لنا بعض صفات الجماعة المسلمة الأولى والتي من أهمها: أ- الصبر في قوله تعالى: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ): إن كلمة الصبر تتردد في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم, ويوصي الناس بها بعضهم بعضا، وتبلغ أهميتها أن تصير صفة من أربع للفئة الناجية من الخسران. قال تعالى: ( وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) [العصر] فحكم المولى عز وجل على جميع الناس بالخسران إلا من أتى بهذه الأمور الأربعة: 1-الإيمان بالله. 2- العمل الصالح. 3- التواصي بالحق. 4- التواصي بالصبر. (1/127)
لأن نجاة الإنسان لا تكون إلا إذا أكمل الإنسان نفسه بالإيمان والعمل الصالح، وأكمل غيره بالنصح والإرشاد، فيكون قد جمع بين حق الله، وحق العباد، "والتواصي بالصبر كذلك ضرورة؛ فالقيام على الإيمان والعمل الصالح، وحراسة الحق والعدل من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة، ولابد من الصبر على جهاد النفس، وجهاد الغير، والصبر على الأذى والمشقة، والصبر على تبجح الباطل، والصبر على طول الطريق وبطء المراحل، وانطماس المعالم وبعد النهاية"( ). ب- كثرة الدعاء والإلحاح على الله: وهذا يظهر في قوله تعالى: ( يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) فالدعاء باب عظيم، فإذا فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات، وانهالت عليه البركات, فلا بد من تربية الأفراد الذين يعدون لحمل الرسالة وأداء الأمانة, على حسن الصلة بالله, وكثرة الدعاء؛ لأن ذلك من أعظم وأقوى عوامل النصر( ). ج- الإخلاص: ويظهر في قوله تعالى: ( يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ), ولا بد عند إعداد الأفراد إعدادًا ربانيًا أن يتربى المسلم على أن تكون أقواله، وأعماله، وجهاده كله لوجه الله وابتغاء مرضاته, وحسن مثوبته, من غير نظر إلى مغنم، أو جاه، أو لقب، أو تقدم، أو تأخر، وحتى يصبح جنديًّا من أجل العقيدة والمنهج الرباني ولسان حاله قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ` لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) [الأنعام: 162-163] إن الإخلاص ركن من أركن قبول العمل, ومعلوم أن العمل عند الله لا يقبل إلا بالإخلاص وتصحيح النية وبموافقة السنة والشرع. د- الثبات: ويظهر في قوله تعالى وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) [الكهف:28]. (1/128)
وهذا الثبات المذكور فرع عن ثبات أعم, ينبغي أن يتسم به الداعية الرباني، قال تعالى: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) [الأحزاب: 23]. ففي الآيات الكريمة ثلاث صفات، إيمان, ورجولة، وصدق. وهذه العناصر مهمة للثبات على المنهج الحق؛ لأن الإيمان يبعث على التمسك بالقيم الرفيعة والتشبث بها، ويبعث على التضحية بالنفس ليبقى المبدأ الرفيع، والرجولة محركة للنفس نحو هذا الهدف غير مهتمة بالصغائر والصغار، وإنما دائمًا دافعة نحو الهدف الأسمى، والمبدأ الرفيع، والصدق يحول دون التحول أو التغيير أو التبديل، ومن ثم يورث هذا كله الثبات الذي لا يتلون معه الإنسان, وإن رأى شعاع السيف على رقبته، أو رأى حبل المشنقة ينتظره، أو رأى الدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها. ولا شك أن اللبنات التي تعد لحمل الدعوة، وإقامة الدولة، وصناعة الحضارة تحتاج إلى الثبات الذي يعين على تحقيق الأهداف السامية, والغايات الجميلة والقيم الرفيعة( ). هذه من أهم الصفات التي اتصفت بها الجماعة المؤمنة الأولى. تاسعًا: انتشار الدعوة في بطون قريش وعالميتها: (1/129)
كان انتشار الإسلام في المرحلة السرية, في سائر فروع قريش بصورة متوازنة دون أن يكون ثقل كبير لأي قبيلة، وهذه الظاهرة مخالفة لطبيعة الحياة القبلية آنذاك. وهي إذا أفقدت الإسلام الاستفادة الكاملة من التكوين القبلي والعصبية لحماية الدعوة الجديدة ونشرها، فإنها في الوقت نفسه لم تؤلب عليها العشائر الأخرى بحجة أن الدعوة تحقق مصالح العشيرة التي انتمت إليها وتعلي من قدرها على حساب العشائر الأخرى، ولعل هذا الانفتاح المتوازن على الجميع أعان في انتشار الإسلام في العشائر القرشية العديدة دون تحفظات متصلة بالعصبية، فأبو بكر الصديق من (تيم)، وعثمان بن عفان من (بني أمية)، والزبير بن العوام من (بني أسد)، ومصعب بن عمير من (بني عبد الدار)، وعلي بن أبي طالب من (بني هاشم)، وعبد الرحمن بن عوف من (بني زهرة)، وسعيد بن زيد من (بني عدي)، وعثمان بن مظعون من (بني جُمَح)، بل إن عددًا من المسلمين في هذه المرحلة لم يكونوا من قريش، فعبد الله بن مسعود من (هُذيل)، وعتبة بن غزوان من (مازن)، وعبد الله بن قيس من (الأشعريين)، وعمار بن ياسر من (عنس) من مَذْحج، وزيد بن حارثة من (كلب)، والطفيل بن عمرو من (دوس)، وعمرو بن عبسة من (سليم)، وصهيب النمري من (بني النمر بن قاسط)، لقد كان واضحا أن الإسلام لم يكن خاصًّا بمكة( ). (1/130)
لقد شق النبي صلى الله عليه وسلم طريقه بكل تخطيط ودقة, وأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، فاهتم بالتربية العميقة، والتكوين الدقيق، والتعليم الواسع، والاحتياط الأمني، والانسياب الطبيعي في المجتمع، والإعداد الشامل للمرحلة التي بعد السرية، لأنه عليه الصلاة والسلام يعلم أن الدعوة إلى الله لم تنزل لتكون دعوة سرية, يخاطب بها الفرد بعد الفرد، بل نزلت لإقامة الحجة على العالمين، وإنقاذ من شاء الله إنقاذه من الناس من ظلمات الشرك والجاهلية, إلى نور الإسلام والتوحيد، ولذلك كشف الله تعالى عن حقيقة هذه الدعوة وميدانها, منذ خطواتها الأولى، حيث إن القرآن المكي بين شمول الدعوة وعالميتها: قال تعالى: ( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) [ص: 87]. وقال تعالى: ( وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) [القلم: 52]. إن الدعوة جاءت لتخاطب البشر، كل البشر، ولتنقذ منهم من سبقت له من الله الحسنى، وهذا يعني أن الدعوة جاءت ومن خصائصها، الإعلان والصدع، والبلاغ، والبيان، والإنذار، وتحمل ما يترتب على هذا من التكذيب، والإيذاء والقتل. إن استسرار النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته أول الأمر، إنما هو حال استثنائي لظروف وملابسات خاصة، وهي ظروف بداية الدعوة وضعفها وغربتها، وينبغي أن يفهم هذا ضمن هذا الإطار. (1/131)
وإن كان الكتمان والاستسرار, سياسة مصلحية في كثير من أمور الإسلام في الحرب والسلام، فهو كذلك في موضوع الدعوة، فالاستسرار بها كان لضرورة فرضها الواقع, وإلا فالأصل هو بيان دين الله وشرعه, وحكمه لكل الناس، أما الاستسرار بما سوى ذلك من الوسائل والخطط والتفصيلات, فهو أمر مصلحي, خاضع للنظر والاجتهاد البشري، إذ لا يترتب عليه كتمان للدين، ولا سكوت عن حق، ولا يتعلق به بيان، ولا بلاغ، ومن ذلك مثلا معرفة عدد الأتباع المؤمنين بالدعوة، فهذا أمر مصلحي لا يخل بقضية البلاغ والنذارة, التي نزلت الكتب وبعثت الرسل من أجلها، فيمكن أن يظل سرًّا متى كانت المصلحة في ذلك مع القيام بأمر الدعوة والتبليغ؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم حتى بعد أن صدع بدعوته، وأنذر الناس وأعلن النبوة, ظل يخفي أشياء كثيرة, لا تؤثر على مهمة البلاغ والبيان كعدد أتباعه، وأين يجتمع بهم؟ وما هي الخطط التي يتخذونها إزاء الكيد الجاهلي( ). * * *
المبحث الثالث البناء العقدي في العهد المكي أولاً: فقه النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع السنن: إن بناء الدول وتربية الأمم, والنهوض بها يخضع لقوانين وسنن ونواميس تتحكم في مسيرة الأفراد والشعوب والأمم والدول، وعند التأمل في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم نراه قد تعامل مع السنن والقوانين بحكمة وقدرة فائقة. إن السنن الربانية هي أحكام الله تعالى الثابتة في الكون، وعلى الإنسان في كل زمان ومكان, وهي كثيرة جدًا, والذي يهمنا منها في هذا الكتاب ما يتعلق بحركة النهوض تعلقًا وثيقًا. (1/132)
إن المتدبر لآيات القرآن الكريم يجدها حافلة بالحديث عن سنن الله تعالى, التي لا تتبدل ولا تتغير، ويجد عناية ملحوظة بإبراز تلك السنن وتوجيه النظر إليها واستخراج العبرة منها, والعمل بمقتضياتها لتكوين المجتمع المسلم المستقيم على أمر الله, والقرآن الكريم حينما يوجه أنظار المسلمين إلى سنن الله تعالى في الأرض, فهو بذلك يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها، فهم ليسوا بدعًا في الحياة، فالنواميس التي تحكم الكون والشعوب والأمم والدول والأفراد جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافًا, والحياة لا تجري في الأرض عبثًا، وإنما تتبع هذه النواميس، فإذا درس المسلمون هذه السنن، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، أو إلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام، واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين, لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بالأسباب المؤدية إليه( ). والسنن التي تحكم الحياة واعدة، فما وقع منها من زمان مضى، وسيقع في كل زمان( ). والمسلمون أولى أن يدركوا سنن ربهم, المبرزة لهم في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, حتى يصلوا إلى ما يرجون من عزة وتمكين "فإن التمكين لا يأتي عفوًا ولا ينزل اعتباطًا، ولا يخبط عشواء، بل إن له قوانينه التي سجلها الله تعالى في كتابه الكريم؛ ليعرفها عباده المؤمنون، ويتعاملوا معها على بصيرة" ( ). "إن من شروط التعامل المنهجي السليم مع السنن الإلهية والقوانين الكونية في الأفراد والمجتمعات والأمم، هو أن نفهم، بل نفقه فقهًا شاملاً رشيدًا هذه السنن، وكيف تعمل ضمن الناموس الإلهي أو ما نعبر عنه بـ"فقه السنن" ونستنبط منها على ضوء فقهنا لها القوانين الاجتماعية, والمعادلات الحضارية( ). يقول الأستاذ البنا في منهجية التعامل مع السنن: (1/133)
"لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها, واستخدموها, وحوّلوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد" ( ). ونلاحظ عدة أمور مهمة: 1- عدم المصادمة. 2- المغالبة 3- الاستخدام. 4- التحويل. 5- الاستعانة ببعضها على بعض. 6- ترقب ساعة النصر( ). إن ما وصل إليه الأستاذ البنا يدل على دراسته العميقة للسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، وتجارب الشعوب، والأمم, ومعرفة صحيحة للواقع الذي يعيشه وتوصيف سليم للداء والدواء. إن حركة الإسلام الأولى التي قادها النبي صلى الله عليه وسلم في تنظيم جهود الدعوة، وإقامة الدولة، وصناعة الإنسان النموذجي الرباني الحضاري خضعت لسنن وقوانين قد ذكرت بعضها بنوع من الإيجاز، كأهمية القيادة في صناعة الحضارات، وأهمية الجماعة المؤمنة المنظمة في مقاومة الباطل، وأهمية المنهج الذي تستمد منه العقائد والأخلاق والعبادات، والقيم والتصورات، ومن سنن الله الواضحة فيما ذكر سنة التدرج وهي من سنن الله تعالى في خلقه وكونه، وهي من السنن الهامة التي يجب على الأمة أن تراعيها وهي تعمل للنهوض والتمكين لدين الله. ومنطلق هذه السنة أن الطريق طويل، لا سيما في هذا العصر الذي سيطرت فيه الجاهلية, وأخذت أهبتها واستعدادها، كما أن الشر والفساد قد تجذر في الشعوب واستئصاله يحتاج إلى تدرج. فقد بدأت الدعوة الإسلامية الأولى متدرجة، تسير بالناس سيرًا دقيقًا، حيث بدأت بمرحلة الاصطفاء والتأسيس، ثم مرحلة المواجهة والمقاومة، ثم مرحلة النصر والتمكين، وما كان يمكن أن تبدأ هذه جميعها في وقت واحد، وإلا كانت المشقة والعجز, وما كان يمكن كذلك أن تقدم واحدة منها على الأخرى، وإلا كان الخلل والإرباك( ). (1/134)
واعتبار هذه السنة في غاية الأهمية "ذلك أن بعض العاملين في حقل الدعوة الإسلامية يحسبون أن التمكين يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها، ويريدون أن يغيروا الواقع الذي تحياه الأمة الإسلامية في طرفة عين، دون النظر في العواقب, ودون فهم للظروف والملابسات المحيطة بهذا الواقع ودون إعداد جيد للمقدمات أو للأساليب والوسائل" ( ) "إننا إذا درسنا القرآن الكريم والسنة المطهرة دراسة عميقة علمنا كيف، وبأي تدرج وانسجام تم التغيير الإسلامي في بلاد العرب، ومنها إلى العالم كله على يد النبي صلى الله عليه وسلم... فلقد كانت الأمور تسير رويدًا رويدًا حسب مجراها الطبيعي حتى تستقر في مستقرها الذي أراده الله رب العالمين.." ( ). "وهذه السنة الربانية في رعاية التدرج ينبغي أن تتبع في سياسة الناس، وعندما يراد تطبيق الإسلام في الحياة، واستئناف حياة إسلامية متكاملة يكون التمكين ثمرتها، فإذا أردنا أن نقيم مجتمعًا إسلاميًا حقيقًا، فلا نتوهم أن ذلك يمكن أن يتحقق بقرار يصدر من رئيس, أو ملك, أو من مجلس قيادي أو برلماني، إنما يتحقق ذلك بطريق التدرج، أي بالإعداد، والتهيئة الفكرية، والنفسية، والاجتماعية. وهو نفس المنهج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهلية إلى الحياة الإسلامية، فقد ظل ثلاثة عشر عامًا في مكة، كانت مهمته الأساسية فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن, الذي يستطيع أن يحمل عبء الدعوة، وتكاليف الجهاد لحمايتها ونشرها في الآفاق، ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع بقدر ما كانت مرحلة تربية وتكوين"( ). ثانيًا: سنة التغيير وعلاقتها بالبناء العقدي: (1/135)
من السنن الهامة على طريق النهضة: السنة التي يقررها قول الله تعالى: ( إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن والٍ ) [الرعد: 11] وارتباط هذه السنة الربانية بالتمكين للأمة الإسلامية واضح غاية الوضوح، ذلك أن التمكين لا يمكن أن يتأتى في ظل الوضع الحالي للأمة الإسلامية، فلابد من التغيير، كما أن التمكين لن يتحقق لأمة ارتضت لنفسها حياة المذلة والتخلف، ولم تحاول أن تغير ما حل بها من واقع، وأن تتحرر من أسره( ). إن التغيير الذي قاده النبي صلى الله عليه وسلم بمنهج الله تعالى بدأ بالنفس البشرية, وصنع منها الرجال العظماء، ثم انطلق بهم ليحدث أعظم تغيير في شكل المجتمع، حيث نقل الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن التخلف إلى التقدم، وأنشأ بهم أروع حضارة عرفتها الحياة( ). لقد قام النبي صلى الله عليه وسلم - بمنهجه القرآني- بتغيير في العقائد والأفكار والتصور، وعالم المشاعر والأخلاق في نفوس أصحابه, فتغير ما حوله في دنيا الناس، فتغيرت المدينة، ثم مكة، ثم الجزيرة، ثم بلاد فارس والروم, في حركة عالمية تسبّح وتذكر خالقها بالغدو والآصال. كان اهتمام المنهج القرآني في العهد المكي بجانب العقيدة، فكان يعرضها بشتى الأساليب, فغمرت قلوبهم معاني الإيمان, وحدث لهم تحول عظيم. قال تعالى موضحا ذلك الارتقاء العظيم: ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [الأنعام: 122]. ثالثًا: تصحيح الجانب العقدي لدى الصحابة: (1/136)
كان تصور الصحابة -رضي الله عنهم- لله قبل البعثة تصورًا فيه قصور ونقص، فهم ينحرفون عن الحق في أسمائه وصفاته ( وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [الأعراف: 180] فجاء القرآن الكريم لترسيخ العقيدة الصحيحة, وتثبيتها في قلوب المؤمنين, وإيضاحها للناس أجمعين, ذلك ببيان توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، والإيمان بكل ما أخبر الله به من الملائكة والكتاب والنبيين والقدر خيره وشره, واليوم الآخر وإثبات الرسالة للرسل عليهم السلام، والإيمان بكل ما أخبروا به( ). وتربى الرعيل الأول رضوان الله عليهم على فهم صفات الله وأسمائه الحسنى, وعبدوه بمقتضاها فَعَظُم الله في نفوسهم، وأصبح رضاه سبحانه غاية مقصدهم وسعيهم, واستشعروا مراقبته لهم في كل الأوقات ( ). إن التربية النبوية الرشيدة للأفراد على التوحيد هي الأساس الذي قام عليه البناء الإسلامي وهي المنهجية الصحيحة التي سار عليها الأنبياء والمرسلون من قبل. وقد آتت تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه ثمارها المباركة, فتطهر الصحابة في الجملة مما يضاد توحيد الألوهية, وتوحيد الربوبية, وتوحيد الأسماء والصفات، فلم يحتكموا إلا إلى الله وحده ولم يطيعوا غير الله، ولم يتبعوا أحدًا على غير مرضاة الله, ولم يحبوا غير الله كحب الله، ولم يخشوا إلا الله, ولم يتوكلوا إلا على الله, ولم يلتجئوا إلا إلى الله، ولم يدعوا دعاء المسألة والمغفرة إلا لله وحده، ولم يذبحوا إلا لله, ولم ينذروا إلا لله, ولم يستغيثوا إلا بالله ولم يستعينوا- فيما لا يقدر عليه إلا الله- إلا بالله وحده، ولم يركعوا أو يسجدوا أو يحجوا أو يطوفوا أو يتعبدوا إلا لله وحده، ولم يشبهوا الله لا بالمخلوقات ولا بالمعدومات بل نزهوه غاية التنزيه ( ). (1/137)
وكما رسَّخ القرآن المكي في قلوب الصحابة رضي الله عنهم العقيدة الصحيحة, حول التوحيد بأنواع, وحول الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة, صحح عقيدتهم حول سائر أركان الإيمان الأخرى. رابعًا: وصف الجنة في القرآن الكريم وأثره على الصحابة: ركز القرآن المكي على اليوم الآخر غاية التركيز, فقل أن توجد سورة مكية لم يذكر فيها بعض أحوال يوم القيامة وأحوال المنعمين وأحوال المعذبين، وكيفية حشر الناس ومحاسبتهم وحتى لكأن الإنسان ينظر إلى يوم القيامة رأي العين. 1- الجنة لا مثيل لها: وقد جاءت الآيات الكريمة مبينة وواصفة للجنة، بما لا يمكن أن يكون له مثيل في الكون، فأثر ذلك في نفوس الصحابة أيما تأثير. إن نعيم الجنة شيء أعده الله لعباده المتقين, نابع من كرم الله وجوده وفضله، ووصف لنا المولى عز وجل شيئًا من نعيمها, إلا أنه ما أخفاه الله عنا من نعيم شيء عظيم لا تدركه العقول، ولا تصل إلى كنهه الأفكار قال تعالى: ( فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [السجدة: 16-17]. 2- أفضل ما يعطاه أهل الجنة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيرفع الحجاب، فينظرون إلى وجه الله, فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى" وجاء في رواية أخرى: ثم تلا هذه الآية: ( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [يونس: 26]( ). (1/138)
إن التصور البديع للجنان والاعتقاد الجازم بها مهم في نهضة أمتنا، فعندما تحيا صورة الجنان في نفوس أفراد الأمة, يندفعون لمرضات الله تعالى ويقدمون الغالي والنفيس ويتخلصون من الوهن وكراهة الموت, وتتفجر في نفوسهم طاقات هائلة تمدهم بعزيمة وإصرار, ومثابرة على إعزاز دين الله. خامسًا: وصف النار في القرآن الكريم وأثره في نفوس الصحابة: كان الصحابة يخافون الله تعالى ويخشونه ويرجونه، وكانت لتربية الرسول صلى الله عليه وسلم أثر في نفوسهم عظيم، وكان المنهج القرآني الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل الأفاعيل في نفوس الصحابة؛ لأن القرآن الكريم وصف أهوال يوم القيامة ومعالمها, من قبض الأرض ودكها، وطي السماء، ونسف الجبال، وتفجير البحار وتسجيرها، وموران السماء وانفطارها, وتكوير الشمس, وخسوف القمر, وتناثر النجوم، وصَّور القرآن الكريم حال الكفار وذلتهم وهوانهم وحسرتهم ويأسهم وإحباط أعمالهم، وتحدث القرآن الكريم عن حشر الكفار إلى النار، ومرور المؤمنين على الصراط، وخلاص المؤمنين من المنافقين( ) وكان لهذا الحديث أثره العظيم في نفوس الصحابة، وصور القرآن الكريم ألوان العذاب في النار فأصبح الرعيل الأول يراها رأي العين. سادسًا: مفهوم القضاء والقدر وأثره في تربية الصحابة رضي الله عنهم: اهتم القرآن الكريم في الفترة المكية بقضية القضاء والقدر، قال تعالى: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) [القمر: 49]، وكان صلى الله عليه وسلم يغرس في نفوس الصحابة مفهوم القضاء والقدر. فكان للفهم الصحيح, والاعتقاد الراسخ في قلوب الصحابة لحقيقة القضاء والقدر, ثمار نافعة ومفيدة, عادت عليهم بخيرات الدنيا والآخرة, فمن تلك الثمرات: 1- أداء عبادة الله عز وجل. 2- الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك؛ لأن المؤمن يعتقد أن النافع والضار، والمعز والمذل، والرافع والخافض هو الله وحده سبحانه وتعالى. (1/139)
3- الشجاعة والإقدام، فإيمانهم بالقضاء والقدر جعلهم يوقنون أن الآجال بيد الله تعالى وأن لكل نفس كتابًا. 4- الصبر والاحتساب ومواجهة الصعاب. 5- سكون القلب وطمأنينة النفس وراحة البال. 6- عزة النفس والقناعة والتحرر من رق المخلوقين. إن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر كثيرة وهذه من باب الإشارة. ولم تقتصر تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه على تعليمهم أركان الإيمان الستة المتقدمة، بل صحح عندهم كثيرًا من المفاهيم والتصورات والاعتقادات, عن الإنسان والحياة والكون والعلاقة بينهما, ليسير المسلم على نور من الله, يدرك هدف وجوده في الحياة، ويحقق ما أراد الله منه غاية التحقيق، ويتحرر من الوهم والخرافات( ). سابعًا: معرفة الصحابة لحقيقة الإنسان: إن القرآن الكريم عرَّف الإنسان بنفسه بعد أن عرفه بربه وباليوم الآخر، ويجيب على تساؤلات الفطرة، من أين؟ وإلى أين؟ وهي تساؤلات تفرض نفسها على كل إنسان سوي، وتلح في طلب الجواب( ). وبين القرآن الكريم للصحابة الكرام حقيقة نشأة الإنسانية وأصولهم التي يرجعون إليها، وما هو المطلوب منهم في هذه الحياة؟ وما هو مصيرهم بعد الموت؟ ثامنًا: تصور الصحابة لقصة الشيطان مع آدم عليه السلام: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال المنهج القرآني، يحدثهم عن قصة الشيطان مع آدم ويشرح لهم حقيقة الصراع بين الإنسان مع عدوه اللدود, الذي حاول إغواء أبيهم آدم عليه السلام من خلال الآيات الكريمة مثل قوله تعالى: ( يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) [الأعراف: 27]. (1/140)
كانت الآيات الكريمة التي تحدثت عن قصة آدم وصراعه مع الشيطان, قد علمت الرعيل الأول قضايا مهمة في مجال التصور والاعتقاد والأخلاق فمنها: 1- أن آدم هو أصل البشر. 2- جوهر الإسلام الطاعة المطلقة لله. 3- قابلية الإنسان للوقوع في الخطيئة. 4- خطيئة آدم تعلم المسلم ضرورة التوكل على ربه. 5- ضرورة التوبة والاستغفار. 6- الاحتراز من الحسد والكبر. 7- إبليس هو العدو الأول لآدم وزوجه وذريتهما. من الوسائل التي استخدمها الصحابة الكرام لمحاربة الشيطان، التخاطب بأحسن الكلام امتثالاً لقول الله تعالى: ( وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا ) [الإسراء: 53]. هذه صورة موجزة عن حقيقة إبليس وتصور الصحابة رضي الله عنهم لهذا العدو اللعين. تاسعًا: نظرة الصحابة إلى الكون والحياة وبعض المخلوقات: ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة كتاب الله تعالى ويربيهم على التصور الصحيح, في قضايا العقائد, والنظر السليم للكون والحياة من خلال الآيات القرآنية الكريمة، فبين بدء الكون ومصيره. وقرر القرآن الكريم حقائق عن الحيوان، لا تقل في الأهمية والدقة عن الحقائق التي قررها في كل جوانب الكون والحياة. وهكذا نظم القرآن الكريم أفكار وتصورات الرعيل الأول عن الكون وما فيه من مخلوقات وعجائب, وعن حقيقة هذه الحياة الفانية، واستمر النبي صلى الله عليه وسلم في غرس حقيقة المصير, وسبيل النجاة في نفوس أصحابه, موقنًا أن من عرف منهم عاقبته وسبيل النجاة والفوز, سيسعى بكل ما أوتي من قوة ووسيلة لسلوك السبيل، حتى يظفر غدًا بهذه النجاة وذلك الفوز، وركز صلى الله عليه وسلم في هذا البيان على جانب مهم هو: أن هذه الحياة الدنيا مهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاعها مهما عظم، فإنه قليل حقير. (1/141)
إن كثيرا من العاملين في مجال الدعوة بهتت في نفوسهم حقيقة أن الدنيا لهو ولعب وغرور، لأنهم انغمسوا في هذه الحياة الدنيا ومتاعها, وشغفتهم حبا، فهم يلهثون وراءها، وكلما حصل على شيء من متاعها طلب المزيد, فهو لا يشبع ولا يقنع، بسبب التصاقه بالدنيا وإنها لكارثة عظيمة على الدعوة والنهوض بالأمة، أما التمتع بهذه الحياة في حدود ما رسمه الشرع واتخاذها مطية للآخرة، فذلك فعل محمود. * * *
المبحث الرابع البناء التعبدي والأخلاقي في العهد المكي أولاً: تزكية أرواح الرعيل الأول بأنواع العبادات: رَبَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على تزكية أرواحهم وأرشدهم إلى الطريق التي تساعدهم على تحقيق ذلك المطلب من خلال القرآن الكريم ومن أهمها: 1- التدبر في كون الله ومخلوقاته، وفي كتاب الله تعالى. 2- التأمل في علم الله الشامل وإحاطته الكاملة بكل ما في الكون، بل ما في عالم الغيب والشهادة. 3- عبادة الله عز وجل، من أعظم الوسائل لتربية الروح وأجلها قدرا، إذ العبادة غاية التذلل لله سبحانه ولا يستحقها إلا الله وحده. والعبادات التي تسمو بالروح وتطهر النفس نوعان: أ- النوع الأول: العبادات المفروضة كالطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج وغيرها. ب- النوع الثاني: العبادات بمعناها الواسع، ويشمل كل شيء يُنْتَوى به التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فهو عبادة يثاب صاحبها، وتربى روحه تربية حسنة( ). إن تزكية الروح بالصلاة وتلاوة القرآن, وذكر الله تعالى, والتسبيح له سبحانه أمر مهم في الإسلام، فإن النفس البشرية إذا لم تتطهر من أدرانها وتتصل بخالقها لا تقوم بالتكاليف الشرعية الملقاة عليها، والعبادة والمداومة عليها تعطي الروح وقودًا وزادًا ودفعًا قويًّا إلى القيام بما تؤمر به. إن الصلاة تأتي في مقدمة العبادات التي لها أثر عظيم في تزكية روح المسلم, ولعل من أبرز آثارها التي أصابت الرعيل الأول. (1/142)
1- الاستجابة لأمر الله تعالى وإظهار العبودية له سبحانه: وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين الذين استجابوا لأمره، فقال عز وجل: ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) [الشورى: 38]. وكان الرعيل الأول يرى أن لكل عمل من أعمال الصلاة عبودية خاصة وتأثيرا في النفس وتزكية للروح. 2- مناجاة العبد ربه: وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا من مشاهد هذه المناجاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم: قال الله تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: مالك يوم الدين: قال: مجدني عبدي. فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين, قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" ( ). 3- طمأنينة النفس وراحتها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى,( ) وقد جُعلت قرة عينه في الصلاة( ), وقد علّم الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة كثيرًا من السنن والنوافل ليزدادوا صلة بربهم، وتأمن بها نفوسهم, وتصبح الصلاة سلاحًا مهما لحل همومهم ومشاكلهم. 4- الصلاة حاجز عن المعاصي:قال تعالى: ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) [العنكبوت: 45]. كان الصحابة رضي الله عنهم عندما يؤدون صلاتهم تستريح بها نفوسهم، وتمدهم بقوة دافعة لفعل الخيرات والابتعاد عن المنكرات، فكانت لهم سياجًا منيعًا حماهم من الوقوع في المعاصي( ). (1/143)
ثانيًا: التربية العقلية: كانت تربية النبيصلى الله عليه وسلم لأصحابه شاملة؛ لأنها مستمدة من القرآن الكريم، الذي خاطب الإنسان ككل, يتكون من الروح، والجسد، والعقل، فقد اهتمت التربية النبوية بتربية الصحابي على تنمية قدرته في النظر والتأمل والتفكر والتدبر؛ لأن ذلك هو الذي يؤهله لحمل أعباء الدعوة إلى الله، وهذا مطلب قرآني. ولذلك وضع القرآن الكريم منهجًا لتربية العقل, سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لتربية أصحابه ومن أهم نقاط هذا المنهج: 1- تجريد العقل من المسلمات المبنية على الظن والتخمين، أو التبعية والتقليد. 2- إلزام العقل بالتحري والتثبت. 3- دعوة العقل إلى التدبر والتأمل في نواميس الكون. 4- دعوة العقل إلى التأمل في حكمة ما شرع الله. 5- دعوة العقل إلى النظر إلى سنة الله في الناس عبر التاريخ البشري، ليتعظ الناظر في تاريخ الآباء والأجداد والأسلاف، ويتأمل في سنن الله في الأمم والشعوب والدول. ثالثًا: التربية الجسدية: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية أصحابه جسديًّا، واستمد أصول تلك التربية من القرآن الكريم، بحيث يؤدي الجسم وظيفته التي خلق لها من دون إسراف أو تقتير، ودون محاباة لطاقة من طاقاته على حساب طاقة أخرى. لذلك ضبط القرآن الكريم حاجات الجسم البشري على النحو التالي: 1- ضبط حاجته إلى الطعام والشراب. 2- وضبط حاجته إلى الملبس والمأوى، بأن أوجب من اللباس ما يستر العورة، ويحفظ الجسم من عاديات الحر والبرد، وندب إلى ما يكون زينة عند الذهاب إلى المسجد. 3- وضبط الحاجة إلى المأوى. 4- وضبط حاجته إلى الزواج والأسرة بإباحة النكاح، بل إيجابه في بعض الأحيان وتحريم الزنا والمخادنة، واللواط. 5- وضبط حاجته إلى التملك والسيادة، وأباح التملك للمال والعقار وفق ضوابط شرعية. 6- وضبط الإسلام السيادة بتحريم الظلم والعدوان والبغي. (1/144)
7- وضبط حاجته إلى العمل والنجاح، بأن جعل من اللازم أن يكون العمل مشروعًا، وغير ضار بأحد من الناس، ونادى على المسلمين أن يعملوا في هذه الدنيا ما يكفل لهم القيام بعبء الدعوة والدين، وما يدخرون عند الله سبحانه. 8- وحذر سبحانه من الدعة والبطر، والاغترار بالنعمة. هذه بعض الأسس التي قامت عليها التربية النبوية للأجسام، حتى تستطيع أن تتحمل أثقال الجهاد، وهموم الدعوة وصعوبة الحياة. رابعًا: تربية الصحابة على مكارم الأخلاق، وتنقيتهم من الرذائل: إن الأخلاق الرفيعة جزء مهم من العقيدة، فالعقيدة الصحيحة لا تكون بغير خلق وقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته على مكارم الأخلاق بأساليب متنوعة. فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء"( ). وسئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: "تقوى الله، وحسن الخلق" وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: "الفم والفرج"( ). إن الأخلاق ليست شيئًا ثانويًا في هذا الدين، وليست محصورة في نطاق معين من نطاقات السلوك البشري، إنما هي الترجمة العملية للاعتقاد والإيمان الصحيح؛ لأن الإيمان ليس مشاعر مكنونة في داخل الضمير فحسب، إنما هو عمل سلوكي ظاهر كذلك، بحيث يحق لنا حين لا نرى ذلك السلوك العملي, أو حين نرى عكسه، أن نتساءل أين الإيمان إذن؟ وما قيمته إذا لم يتحول إلى سلوك( )؟ ولذلك نجد القرآن الكريم يربط الأخلاق بالعقيدة ربطًا قويًا والأمثلة على ذلك كثيرة( ). لقد تربى الصحابة رضي الله عنهم على أن العبادة نوع من الأخلاق؛ لأنها من باب الوفاء لله، والشكر للنعمة، والاعتراف بالجميل، والتوقير لمن هو أهل التوقير والتعظيم, وكلها من مكارم الأخلاق( )، فكانت أخلاق الصحابة ربانية، باعثها الإيمان بالله، وحاديها الرجاء في الآخرة وغرضها رضوان الله ومثوبته. (1/145)
إن الأخلاق في التربية النبوية شيء شامل يعم كل تصرفات الإنسان وكل أحاسيسه ومشاعره وتفكيره، فالصلاة لها أخلاق، هي: الخشوع، والكلام له أخلاق, هي: الإعراض عن اللغو، والجنس له أخلاق, هي: الالتزام بحدود الله وحرماته، والتعامل مع الآخرين له أخلاق, هي: التوسط بين التقتير والإسراف، والحياة الجماعية لها أخلاق, هي: أن يكون الأمر شورى بين الناس، والغضب له أخلاق, هي: العفو والصفح، ووقوع العدوان من الأعداء يستتبعه أخلاق, هي: الانتصار أي رد العدوان، وهكذا لا يوجد شيء واحد في حياة المسلم ليست له أخلاق تكيفه ولا شيء واحد ليست له دلالة أخلاقية مصاحبة. إن الله سبحانه وتعالى، قد جعل التوحيد، أي: إفراد الله بالعبادة على رأس هذا المنهج الخلقي الذي رسمته آيات سورة الإسراء [38:23] مدحًا وذمًا؛ لأن التوحيد له في الحقيقة جانب أخلاقي أصيل، إذ الاستجابة إلى ذلك ترجع إلى خلق العدل والإنصاف، والصدق مع النفس، كما أن الإعراض عن ذلك يرجع في الحقيقة إلى بؤرة سوء الأخلاق في المقام الأول، مثل الكبر عن قبول الحق، والاستكبار عن اتباع الرسل غرورًا وأنفة، أو الولوع بالمراء, والجدل بالباطل مغالبة وتطالعًا للظهور، أو تقليدًا وجمودًا على الإلف والعرف مع ضلاله وبهتانه، وكلها -وأمثالها- أخلاق سوء تهلك أصحابها، وتصدهم عن الحق بعد ما تبين، وعن سعادة الدارين مع استيقان أنفسهم بأن طريق الرسل هو السبيل إليها. خامسًا: تربية الصحابة على مكارم الأخلاق من خلال القصص القرآني: إن القصص القرآني غني بالمواعظ والحكم والأصول العقدية، والتوجيهات الأخلاقية، والأساليب التربوية، والاعتبار بالأمم والشعوب، والقصص القرآني ليس أمورًا تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين، وإنما هي أعلى وأشرف وأفضل من ذلك؛ فالقصص القرآني مملوء بالتوحيد، والعلم، ومكارم الأخلاق، والحجج العقلية، والتبصرة والتذكرة، والمحاورات العجيبة. (1/146)
وأضرب لك مثلاً من قصة يوسف -عليه السلام- متأملاً في جانب الأخلاق التي عرضت في مشاهدها الرائعة، قال علماء الأخلاق والحكماء: "لا ينتظم أمر الأمة إلا بمصلحين، ورجال أعمال قائمين، وفضلاء مرشدين هادين، لهم شروط معلومة وأخلاق معهودة، فإن كان القائم بالأعمال نبيًّا فله أربعون خصلة ذكروها، كلها آداب وفضائل بها يسوس أمته، وإن كان رئيسًا فاضلاً، اكتفوا من الشروط الأربعين ببعضها، وسيدنا يوسف -عليه السلام- حاز من كمال المرسلين وجمال النبيين، ولقد جاء في سيرته هذه ما يتخذه عقلاء الأمم هديًا لاختيار الأكفاء في مهام الأعمال، إذ قد حاز الملك والنبوة، ونحن لا قبل لنا بالنبوة لانقطاعها، وإنما نذكر ما يليق بمقام رئاسة المدينة الفاضلة، ولنذكر منها اثنتي عشرة خصلة هي أهم خصال رئيس المدينة الفاضلة, لتكون ذكرى لمن يتفكر في القرآن وتنبيهًا للمتعلمين الساعين للفضائل"( ). أهم ما شرطه الحكماء في رئيس المدينة الفاضلة: 1- العفة عن الشهوات، ليضبط نفسه وتتوافر قوته النفسية: ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) [يوسف: 24]. 2- الحلم عند الغضب، ليضبط نفسه ( قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ) [يوسف: 77]. 3- وضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها: ( وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ.فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلاَ تَقْرَبُونِ ) [يوسف: 59، 60] فبداية الآية لين، ونهايتها للشدة. (1/147)
4- ثقته بنفسه بالاعتماد على ربه: ( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) [يوسف: 55]. 5- قوة الذاكرة, ليمكنه تذكر ما غاب ومضى له سنون، ليضبط السياسات، ويعرف للناس أعمالهم: ( وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ) [يوسف: 58]. 6- جودة المصَوِّرة والقوة المخيلة حتى تأتي بالأشياء تامة الوضوح: ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) [يوسف: 4]. 7- استعداده للعلم، وحبه له، وتمكنه منه: ( وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) [يوسف:38] ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَِ ) [يوسف:101]. 8- شفقته على الضعفاء وتواضعه مع جلال قدره وعلو منصبه، فخاطب الفتيين المسجونين بالتواضع فقال: ( يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) [يوسف: 39] وحادثهما في أمور دينهما ودنياهما بقوله: ( قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ ) [يوسف: 37] والثاني بقوله: ( إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) [يوسف:37] وشهدا له بقولهما نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) [يوسف:36]. 9- العفو مع المقدرة: ( قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) [يوسف: 92]. (1/148)
10- إكرام العشيرة: ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) [يوسف: 93]. 11- قوة البيان والفصاحة بتعبير رؤيا الملك، واقتداره على الأخذ بأفئدة الراعي والرعية والسوقة، ما كان هذا إلا بالفصاحة المبنية على الحكمة والعلم: ( فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ) [يوسف: 54]. 12- حسن التدبير ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ) [يوسف: 47] تالله، ما أجمل القرآن, وما أبهج العلم. لا شك أن العلاقة بين القصص القرآني والأخلاق متينة؛ لأن من أهداف القصص القرآني التذكير بالأخلاق الرفيعة التي تفيد الفرد، والأسرة، والجماعة والدولة، والأمة، والحضارة، كما أن من أهداف القصص القرآني التنفير من الأخلاق الذميمة التي تكون سببًا في هلاك الأمم والشعوب. لقد استخدم المنهاج النبوي أساليب التأثير والاستجابة, والالتزام في تربيته للصحابة، لكي يحول الخلق من دائرة النظريات إلى صميم الواقع التنفيذي والعمل التطبيقي سواء كانت اعتقادية، كمراقبة الله تعالى ورجاء الآخرة، أو عبادية كالشعائر التي تعمل على تربية الضمائر، وصقل الإرادات، وتزكية النفس. ومع تطور الدعوة الإسلامية ووصولها إلى الدولة أصبحت هناك حوافز إلزامية تأتي من خارج النفس متمثلة في: أ- التشريع: الذي وضع لحماية القيم الخلقية, كشرائع الحدود والقصاص, التي تحمي الفرد والمجتمع من رذائل البغي على الغير: (بالقتل أو السرقة) وانتهاك الأعراض، (بالزنى، والقذف) أو البغي على النفس وإهدار العقل: (بالخمر، والمسكرات المختلفة). ب- سلطة المجتمع: (1/149)
التي تقوم على أساس ما | |
| | | ابو مسلم عضز فعال
عدد الرسائل : 51 تاريخ التسجيل : 03/12/2008
| موضوع: رد: السيرة النبوية المطهرة الخميس مارس 25, 2010 9:14 pm | |
| التي تقوم على أساس ما أوجبه الله تعالى من الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, والتناصح بين المؤمنين، ومسئولية بعضهم على بعض، وقد جعل الله تعالى هذه المسئولية قرينة الزكاة، والصلاة، وطاعة الله ورسوله: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [التوبة: 71]. بل جعلها المقوم الأصلي لخيرية هذه الأمة: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) [آل عمران: 110]. وقد ظهرت هذه السلطة وأثرها في الفترة المدنية. ج- سلطة الدولة: التي وجب قيامها، وأقيمت على أسس أخلاقية وطيدة، ولزمها أن تقوم على رعاية هذه الأخلاق وبثها في سائر أفرادها ومؤسساتها، وتجعلها من مهام وجودها ومبرراته( ). وبذلك اجتمع للخلق الإسلامي أطراف الكمال كلها, وأصبح للمجتمع النبوي نظام واقعي مثالي بسبب الالتزام بالمنهج الرباني. (1/150)
هذه بعض الخطوط في البناء العقائدي والروحي والأخلاقي في الفترة المكية، ولقد آتت هذه التربية أكُلها فقد كان ما ينوف على العشرين من الصحابة الكرام الخمسين الأوائل السابقين إلى الإسلام مارسوا مسؤوليات قيادية بعد توسع الدعوة وانطلاقها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته وأصبحوا القادة الكبار للأمة، وعشرون آخرون منهم معظمهم استشهدوا أو ماتوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان في الرعيل الأول أعظم شخصيات الأمة على الإطلاق، كان فيه تسعة من العشرة المبشرين بالجنة، وهم أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومنهم نماذج ساهمت في صناعة الحضارة العظيمة بتضحياتهم الجسيمة، كعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وأبي ذر، وجعفر بن أبي طالب، وغيرهم رضي الله عنهم، وكان من هذا الرعيل أعظم نساء الأمة خديجة رضي الله عنها، ونماذج عالية أخرى، مثل أم الفضل بنت الحارث، وأسماء ذات النطاقين، وأسماء بنت عميس، وغيرهن. لقد أتيح للرعيل الأول أكبر قدر من التربية العقدية والروحية، والعقلية والأخلاقية.. على يد مربي البشرية الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم, فكانوا هم حداة الركب، وهداة الأمة( ), فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزكيهم ويربيهم وينقيهم من أوضار الجاهلية، فإذا كان السعيد الذي فاز بفضل الصحبة من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو مرة واحدة في حياته وآمن به، فكيف بمن كان الرفيق اليومي له، ويتلقى منه، ويتعبق من نوره، ويتغذى من كلامه ويتربى على عينه( ). * * *
الفصل الثالث الجهر بالدعوة وأساليب المشركين في محاربتها المبحث الأول الجهر بالدعوة (1/151)
بعد الإعداد العظيم الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم لتربية أصحابه, وبناء الجماعة المسلمة المنظمة الأولى على أسس عقدية, وتعبدية وخلقية رفيعة المستوى, حان موعد إعلان الدعوة بنزول قول الله تعالى: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ` وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [الشعراء: 214، 215]. فجمع قبيلته صلى الله عليه وسلم وعشيرته, ودعاهم علانية إلى الإيمان بإله واحد، وخوَّفهم من العذاب الشديد إن عصوه، وأمرهم بإنقاذ أنفسهم من النار، وبين لهم مسؤولية كل إنسان عن نفسه( ). عن ابن عباس t قال: لما نزلت ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: "يا بني فهر، يا بني عدي" لبطون قريش - حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب، وقريش، فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟" قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: "فإنني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ )( ). وفي رواية- ناداهم بطنًا بطنًا، ويقول لكل بطن: "أنقذوا أنفسكم من النار...." ثم قال: "يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا غير أن لكم رحما سأبُلها ببلالها" ( ). كان القرشيون واقعيين عمليين، فلما رأوا محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الأمين، قد وقف على جبل يرى ما أمامه، وينظر إلى ما وراءه، وهم ما يرون إلا ما هو أمامهم، فهداهم إنصافهم وذكاؤهم إلى تصديقه، فقالوا: نعم. ولما تمت هذه المرحلية الطبيعية البدائية، وتحققت شهادة المستمعين, قال رسول (1/152)
الله صلى الله عليه وسلم: "فإنني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" وكان ذلك تعريفًا بمقام النبوة، وما ينفرد به من علم بالحقائق الغيبية والعلوم الوهبية، وموعظة وإنذارًا، في حكمة وبلاغة، لا نظير لهما في تاريخ الديانات والنبوات، فلم تكن طريق أقصر من هذا الطريق، ولا أسلوب أوضح من هذا الأسلوب، فسكت القوم( ) ولكن أبا لهب قال: تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟.. وبهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع للأمة أسس الإعلام, فقد اختار مكانًا عاليًا وهو الجبل ليقف عليه, وينادي على جميع الناس فيصل صوته إلى الجميع، وهذا ما تفعله محطات الإرسال في عصرنا الحديث, لتزيد من عمليات الانتشار الإذاعي، ثم اختار لدعوته الأساس المتين ليبني عليه كلامه وهو الصدق؛ وبهذا يكون صلى الله عليه وسلم قد علم رجال الإعلام والدعوة أن الاتصال بالناس بهدف إعلامهم أو دعوتهم، يجب أن يعتمد وبصفة أساسية على الثقة التامة بين المرسل والمستقبل, أو بين مصدر الرسالة والجمهور الذي يتلقى الرسالة، كما أن المضمون أو المحتوى يجب أن يكون صادقا لا كذب فيه( ). "ومن الطبيعي أن يبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، إذ أن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة, قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لا بد أن يكون له أثر خاص, لما لهذا البلد من مركز ديني خطير، فجلبها إلى حظيرة الإسلام لا بد أن يكون له وقع كبير على بقية القبائل، على أن هذا لا يعني أن رسالة الإسلام كانت في أدوارها الأولى محدودة بقريش؛ لأن الإسلام كما يتجلى من القرآن الكريم اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى لتحقيق رسالته العالمية"( ) فقد جاءت الآيات المكية تبين عالمية الدعوة، قال تعالى: ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) [الفرقان: 1]. (1/153)
وقال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) [الأنبياء: 107]. وقال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [سبأ: 28]. ثم جاءت مرحلة أخرى بعدها، فأصبح يدعو فيها كل من يلتقي به من الناس على اختلاف قبائلهم وبلدانهم ويتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، ويدعو من لقيه من حر وعبد، وقوي وضعيف، وغني وفقير( ), حين نزول قوله تعالى: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ` إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ` الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ ` وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ) [الحجر: 94-97]. كانت النتيجة لهذا الصدع هي الصد والإعراض والسخرية والإيذاء والتكذيب، والكيد المدبر المدروس، وقد اشتد الصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه, وبين شيوخ الوثنية وزعمائها، وأصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان، وكان هذا في حد ذاته مكسبًا عظيمًا للدعوة، ساهم فيه أشد وألد أعدائها, ممن كان يشيعون في القبائل قالة السوء عنها، فليس كل الناس يسلمون بدعاوي زعماء الكفر والشرك. كانت الوسيلة الإعلامية في ذلك العصر تناقل الناس للأخبار مشافهة, وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار هذا الحدث العظيم حديث الناس في المجالس ونوادي القبائل، وفي بيوت الناس( ). أهم اعتراضات المشركين: كانت أهم اعتراضات زعماء الشرك موجهة نحو وحدانية الله تعالى، والإيمان باليوم الآخر، ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم الذي أنزل عليه من رب العالمين. وفيما يلي تفصيل لهذه الاعتراضات والرد عليها: أولاً: اعتراضهم على الوحدانية: (1/154)
لم يكن كفار مكة ينكرون بأن الله خلقهم وخلق كل شيء: قال تعالى: ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) [لقمان: 25]. لكنهم كانوا يعبدون الأصنام، ويزعمون أنها تقربهم إلى الله، قال تعالى: ( أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ )( ) [الزمر: 3]. وقد انتقلت عبادة الأصنام إليهم من الأمم المجاورة لهم، ولهذا قابلوا الدعوة إلى التوحيد بأعظم إنكار وأشد استغراب( ) قال تعالى: ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنْذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ` أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ` وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ` مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ) [ص: 4-7]. ولم يكن تصورهم لله تعالى ولعلاقته بخلقه صحيحًا، إذ كانوا يزعمون أن لله تعالى صاحبة من الجن، وأنها ولدت الملائكة، وأن الملائكة بنات الله -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا. (1/155)
فكانت الآيات تنزل مبيِّنة أن الله عز وجل خلق الجن والملائكة كما خلق الإنس، وأنه لم يتخذ ولدًا، ولم تكن له صاحبة, قال تعالى: ( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ` بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [الأنعام: 100-101]. ومبينةٌ أن الجن يقرون لله بالعبودية، وينكرون أن يكون بينهم وبينه علاقة نسب: ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) [الصافات: 158]. ومطالبةً المشركين باتباع الحق وعدم القول بالظنون والأوهام: ( إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى ` وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) [النجم: 27-28]. وموضحةً أنه لا يعقل أن يمنح الله المشركين البنين، ويكون له بنات، وهن أدنى قيمة في رأيهم من البنين: ( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ) [الإسراء: 40]. ومحملةً المشركين مسئولية أقوالهم التي لا تقوم على دليل: ( وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) [الزخرف: 19]. ثانيًا: كفرهم بالآخرة: (1/156)
أما دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان باليوم الآخر، فقد قابلها المشركون بالسخرية والتكذيب: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ` أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ ) [سبأ: 7-8] فقد كانوا ينكرون بعث الموتى: ( وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) [الأنعام: 29]. ويقسمون على ذلك بالأيمان المغلظة. ( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ` لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ) [النحل: 38، 39] وكانوا يظنون أنه لا توجد حياة في غير الدنيا, ويطلبون إحياء آبائهم ليصدقوا بالآخرة: قال تعالى: ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ` وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ` قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ` وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ) [الجاثية: 24-27]. (1/157)
وفاتهم أن الذي خلقهم أول مرة قادر على أن يحييهم يوم القيامة, قال مجاهد وغيره: جاء أُبي بن خلف( ) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم، وهو يفتته ويذروه في الهواء، وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم يميتك الله تعالى، ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار" ونزلت هذه الآيات( ) ( أَوَ لَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ` وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ` قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) [يس: 77-79]. (1/158)
كانت أساليب القرآن الكريم في إقناع الناس بالبعث اعتمدت على خطاب العقل، والانسجام مع الفطرة، والتجاوب مع القلوب، فقد ذكَّر الله عباده أن حكمته تقتضي بعث العباد للجزاء والحساب، فإن الله خلق الخلق لعبادته، وأرسل الرسل, وأنزل الكتب, لبيان الطريق الذي به يعبدونه ويطيعونه ويتبعون أمره ويجتنبون نهيه، فمن العباد من رفض الاستقامة على طاعة الله، وطغى وبغى، أفليس بعد أن يموت الطالح والصالح, ولا بد أن يجزي الله المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته, قال تعالى: ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ` مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ` أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ` إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ) [القلم:35-38] إن الملاحدة الذين ظلموا أنفسهم هم الذين يظنون الكون خلق عبثًا وباطلاً لا لحكمة، وأنه لا فرق بين مصير المؤمن المصلح والكافر المفسد، ولا بين التقي والفاجر( )، قال تعالى ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ` أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ )[ص: 27، 28]. وضرب القرآن الكريم للناس الأمثلة في إحياء الأرض بالنبات, وإن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على إعادة الحياة إلى الجثث الهامدة والعظام البالية ( فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [الروم: 50]. (1/159)
وذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه إحياء بعض الأموات في هذه الحياة الدنيا، فأخبر الناس في كتابه عن أصحاب الكهف, بأنه ضرب على آذانهم في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين, ثم قاموا من رقدتهم بعد تلك الأزمان المتطاولة, قال تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ) [الكهف: 12]. ( وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ) [الكهف: 19]. ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) [الكهف: 25] وغير ذلك من الأدلة والبراهين التي استخدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناظراته مع زعماء الكفر والشرك. ثالثًا: اعتراضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (1/160)
اعترضوا على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يتصورون أن الرسول لا يكون بشرا مثلهم، وأنه ينبغي أن يكون ملكا، أو مصحوبا بالملائكة: ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً ) [الإسراء: 94] ( وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ ) [الأنعام:8] ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) [الأنعام:9] أي لو بعثنا إلى البشر رسولاً من الملائكة لكان على هيئة الرجل يمكنهم مخاطبته والأخذ عنه، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشر( ), وكانوا يريدون رسولاً لا يحتاج إلى طعام وسعى في الأسواق: ( وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ` أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ) [الفرقان: 7، 8] وكأنهم لم يسمعوا بأن الرسل جميعًا كانوا يأكلون ويسعون ويعملون ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا )( ) [الفرقان: 20]. ويريدون أن يكون الرسول كثير المال كبيرًا في أعينهم: ( وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) [الزخرف: 31]. يريدون الوليد بن المغيرة بمكة وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف( ). (1/161)
ونسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجنون: ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ` لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) [الحجر: 6،7] ( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ` ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ) [الدخان: 13، 14] ورد الله عليهم بقوله: ( مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) [القلم: 2] كما نسبوه إلى الكهانة والشعر: ( فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ ` أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) [الطور: 29، 30]. كما أنهم كانوا يعلمون أنه لا ينظم الشعر، وأنه راجح العقل، وأن ما يقوله بعيد عن سجع الكهان وقول السحرة( ). (1/162)
ونسبوه صلى الله عليه وسلم إلى السحر والكذب: ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنْذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) [ص: 4]. ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ` انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) [الإسراء: 47، 48]، وكانت الآيات تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تفند مزاعم المشركين، وتبين له أن الرسل السابقين استهزئ بهم، وأن العذاب عاقبة المستهزئين: ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) [الأنعام: 10] وتعلمه أن المشركين لا يكذبون شخصه، ولكنهم يكذبون رسالته، ويدفعون آيات الله بتلك الأقاويل( ): ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) [الأنعام: 33]. رابعًا: موقفهم من القرآن الكريم: كذلك لم يصدقوا أن القرآن الكريم منزل من الله واعتبروه ضربًا من الشعر الذي كان ينظمه الشعراء، مع أن كل من قارن بين القرآن وبين أشعار العرب يعلم أنه مختلف عنها: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ` لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) [يس: 69، 70] وكيف يكون القرآن شعرًا وقد نزل فيه ذم للشعراء الذين يضلون الناس, ويقولون خلاف الحقيقة( ). ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ` أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ` وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ) [الشعراء: 224 -226]. (1/163)
فهو كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وليس شبيهًا بقول الشعراء، ولا بقول الكهان: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ` وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ ` وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ` تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) [الحاقة: 40-43]. وقد أدرك الشعراء قبل غيرهم أن القرآن الكريم ليس شعرًا( ) ومن فرط تكذيبهم وعنادهم قالوا: إن محمدًا يتعلم القرآن من رجل أعجمي( ) كان غلامًا لبعض بطون قريش، وكان بياعًا يبيع عند الصفا، وربما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء، وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف من العربية إلا اليسير، بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه، ولهذا قال تعالى ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) [النحل: 103]. أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن من فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة من رجل أعجمي؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل( ). واعترضوا على طريقة نزول القرآن، فطلبوا أن ينزل جملة واحدة، مع أن نزوله مفرقًا أدعى لتثبيت قلوب المؤمنين به وتيسير فهمه وحفظه وامتثاله: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) [الفرقان: 32]. فلما اعترض المشركون على القرآن, وعلى من أنزل عليه بهذه الاعتراضات تحداهم الله بأن يأتوا بمثله، وأعلن عن عجز الإنس والجن مجتمعين عن ذلك: ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) [الإسراء: 88]. (1/164)
بل هم عاجزون عن أن يأتوا بعشر سور مثله: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ` فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ) [هود: 13، 14]. وحتى السورة الواحدة هم عاجزون عنها: ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُّفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ` أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) [يونس: 37-38]. فعجزهم مع أن الفصاحة كانت من سجاياهم، وكانت أشعارهم ومعلقاتهم في قمة البيان دليل على أن القرآن كلام الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله وأقواله، وكلامه لا يشبه كلام المخلوقين( ). * * *
| |
| | | ابو مسلم عضز فعال
عدد الرسائل : 51 تاريخ التسجيل : 03/12/2008
| موضوع: رد: السيرة النبوية المطهرة الخميس مارس 25, 2010 9:15 pm | |
| المبحث الثاني سنة الابتلاء الابتلاء - بصفة عامة- سنة الله في خلقه, وهذا واضح في تقريرات القرآن الكريم, قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [الأنعام: 165] وقال سبحانه: ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ) [الكهف: 7] وقال جل شأنه: ( إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) [الإنسان: 2]. (1/165)
الابتلاء مرتبط بالتمكين ارتباطا وثيقا، فلقد جرت سنة الله تعالى ألا يُمكِّن لأمة إلا بعد أن تمر بمراحل الاختبار المختلفة، وإلا بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز الله الخبيث من الطيب, وهي سنة جارية على الأمة الإسلامية لا تتخلف, فقد شاء الله تعالى أن يبتلي المؤمنين ويختبرهم، ليمحص إيمانهم ثم يكون لهم التمكين في الأرض بعد ذلك، ولذلك جاء هذا المعنى على لسان الإمام الشافعي t حين سأله رجل: أيهما أفضل للمرء، أن يُمكن أو يبتلى؟ فقال الإمام الشافعي: لا يمكن حتى يبتلى، فإن الله تعالى ابتلى نوحًا وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم, فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة( ). حكمة الابتلاء وفوائده: للابتلاء حكم كثيرة من أهمها: 1- تصفية الصفوف: جعل الله الابتلاء وسيلة لتصفية نفوس الناس، ومعرفة المحق منهم والمبطل؛ وذلك لأن المرء قد لا يُكشف في الرخاء، لكنه تكشفه الشدة، قال تعالى: ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ) [العنكبوت: 2]. 2- تربية الجماعة المسلمة:
| |
| | | ابو مسلم عضز فعال
عدد الرسائل : 51 تاريخ التسجيل : 03/12/2008
| موضوع: رد: السيرة النبوية المطهرة الخميس مارس 25, 2010 9:17 pm | |
| وفى هذا يقول سيد قطب رحمه الله: "ثم إنه الطريق الذي لا طريق غيره لإنشاء الجماعة, التي تحمل هذه الدعوة وتنهض بتكاليفها، طريق التربية لهذه الجماعة، وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال، وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف, والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة، ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودًا، فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها, إذن بالصبر عليها، فهم عليها مؤتمنون"( ). 3- الكشف عن خبايا النفوس: (1/166)
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: "والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مغيب عن علم البشر, فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم، وهو فضل من الله من جانب، وعدل من جانب، وتربية للناس من جانب، فلا يأخذوا أحدًا إلا بما استعلن من أمره وبما حققه فعله، فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه"( ). 4- الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة: وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: "وما بالله - حاشا لله - أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة، فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات, وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام, وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله وثوابه على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء، والنفس تصهرها الشدائد, فتنفي عنها الخبث وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع، وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل، وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات، فلا يبقى صامدًا إلا أصلبها عودًا وأقواها طبيعة، وأشدها اتصالاً بالله، وثقة فيما عنده من الحسنيين النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار"( ). 5- معرفة حقيقة النفس: وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: "وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم، وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية، ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها، حقيقة الجماعات والمجتمعات، وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم مع الشهوات في أنفسهم، وفي أنفس الناس، ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس، ومزالق الطريق ومسارب الضلال"( ). 6- معرفة قدر الدعوة: (1/167)
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: "وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم، وتغلو بقدر ما يصيبهم في سبيلها من غث وبلاء، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغالٍ، فلا يفرطوا فيها بعد ذلك مهما كانت الأحوال"( ). 7- الدعاية لها: فصبر المؤمنين على الابتلاء دعوة صامتة لهذا الدين وهي التي تدخل الناس في دين الله، ولو وهنوا أو استكانوا لما استجاب لهم أحد، لقد كان الفرد الواحد يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ثم يأتيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يمضي إلى قومه يدعوهم، ويصبر على تكذيبهم وأذاهم، ويتابع طريقه حتى يعود بقومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم( ). وسنرى ذلك في الصفحات القادمة إن شاء الله. 8- جذب بعض العناصر القوية إليها: وأمام صمود المسلمين وتضحياتهم، تتوق النفوس القوية إلى هذه العقيدة، ومن خلال الصلابة الإيمانية تكبر عند هذه الشخصيات الدعوة وحاملوها، فيسارعون إلى الإسلام دون تردد، وأعظم الشخصيات التي يعتز بها الإسلام دخلت إلى هذا الدين من خلال هذا الطريق( ). 9- رفع المنزلة والدرجة عند الله، وتكفير السيئات: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه خطيئة" ( ) فقد يكون للعبد درجة عند الله تعالى لا يبلغها بعمله فيبتليه الله تعالى حتى يرفعه إليها، كما أن الابتلاء طريق لتكفير سيئات المسلم( ). (1/168)
كما أن للابتلاء فوائد عظيمة منها: معرفة عز الربوبية وقهرها، معرفة ذل العبودية وكسرها، الإخلاص، الإنابة إلى الله والإقبال عليه، التضرع والدعاء، الحلم عمن صدرت عنه المصيبة، العفو عن صاحبها، الصبر عليها، الفرح بها لأجل فوائدها، الشكر عليها، رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم، معرفة قدر نعمة العافية والشكر عليها، ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها، وغير ذلك من الفوائد. ومن أراد التوسع فليراجع كتاب فقه الابتلاء( ). ***
المبحث الثالث أساليب المشركين في محاربة الدعوة أجمع المشركون على محاربة الدعوة التي عرَّت واقعهم الجاهلي, وعابت آلهتهم وسفهت أحلامهم، أي آراءهم وأفكارهم، وتصوراتهم عن الله والحياة والإنسان والكون، فاتخذوا العديد من الوسائل والمحاولات لإيقاف الدعوة وإسكات صوتها، أو تحجيمها وتحديد مجال انتشارها. أولاً: محاولة قريش لإبعاد أبي طالب عن مناصرة وحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا، فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فقال: "ترون هذه الشمس؟" قالوا: نعم، قال: "فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منها بشعلة" وفي رواية: "والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحد من هذه الشمس شعلة من نار" فقال أبو طالب: "والله ما كذب ابن أخي قط، فارجعوا راشدين"( )، وحاولت قريش مرات عديدة الضغط على رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة عائلته ولكنها فشلت. (1/169)
ذاع أمر حماية أبي طالب لابن أخيه, وتصميمه على مناصرته وعدم خذلانه، فاشتد ذلك على قريش غمًّا وحسدًا ومكرًا, فمشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: "يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد, أنهد فتى في قريش, وأجملهم، فلك عقله( ) ونصره، واتخذه ولدًا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك، ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامنا، فنقتله فإنما هو رجل برجل" قال: "والله لبئس ما تسومونني أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني فتقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبدا"( ). وإن المرء ليسمع عجبًا، ويقف مذهولاً أمام مروءة أبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ربط أبو طالب مصيره بمصير ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم، بل واستفاد من كونه زعيم بني هاشم أن ضم بني هاشم وبني المطلب إليه في حلف واحد على الحياة والموت، تأييدًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم, مسلمهم ومشركهم على السواء,( ) وأجار ابن أخيه محمدا إجارة مفتوحة لا تقبل التردد أو الإحجام، كانت هذه الأعراف الجاهلية والتقاليد العربية تسخر من قبل النبي صلى الله عليه وسلم لخدمة الإسلام، وقد قام أبو طالب حين رأى قريشًا تصنع ما تصنع في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه، من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهب عدو الله اللعين. فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جهدهم معهم، وحدبهم عليه، جعل يمدحهم، ويذكر قديمهم، ويذكر فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم، وليحدبوا معه على أمره فقال: إذا اجتمعت يومًا قريش لمفخر فعبد مناف سرها وصميمُها وإن حُصلت أشراف عبد منافها ففي هاشم أشرافُها وقديمها وإن فَخَرَت يومًا فإن محمدا هو المصطفى من سر وكريمُها تداعت قريش غثها وثمينها علينا فلم تظفر وطاشت حلومها (1/170)
وكنا قديمًا لا نُقر ظُلامة إذا ما ثنوا صُعْر الخدود نُقيمها( ) وحين حاول أبو جهل أن يخفر جوار أبي طالب تصدى له حمزة، فشجه بقوسه، وقال له: تشتم محمدا وأنا على دينه، فرد ذلك إن استطعت. إنها ظاهرة فذة أن تقوم الجاهلية بحماية من يسب آلهتها، ويعيب دينها، ويسفه أحلامها، وباسم هذه القيم يقدمون المهج والأرواح، ويخوضون المعارك والحروب، و لا يُمسُّ محمد صلى الله عليه وسلم بسوء. ولما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرمة مكة، وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم في ذلك من شعره أنه غير مُسْلِمٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه فقال: ولما رأيت القوم لا ود فيهم وقد قطعوا كل العرى والوسائل وقد صارحونا بالعداوة والأذى وقد طاوعوا أمر العدو المزايل وقد حالفوا قومًا علينا أَظِنَّةً يعضون غيظًا خلفنا بالأنامل صبرت لهم نفسي بسمراء( ) سمحة وأبيض عضب( ) من ترات المقاول وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي وأمسكت من أثوابه بالوصائل( ) وتعوذ بالبيت وبكل المقدسات التي فيه، وأقسم بالبيت بأنه لن يسلم محمدا ولو سالت الدماء أنهارًا واشتدت المعارك مع بطون قريش: كذبتم وبيت الله نُبْزَى محمدا ولما نطاعن دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله( ) ونذهل عن أبنائنا والحلائل( ) وينهض قوم في الحديد إليكم نهوض الروايا( ) تحت ذات الصلاصل وقرّع زعماء بني عبد مناف بأسمائهم لخذلانهم إياه، فلعتبة بن ربيعة يقول: فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح حسود كذوب مبغض ذي دغاول( ) ولأبي سفيان بن حرب يقول: ومر أبو سفيان عني معرضا كما مَرَّ قَيْل( ) من عظام المقاول يفر إلى نجد وبردَِ مياهه ويزعم أني لست عنكم بغافل( ) وللمطعِم بن عدي سيد بني نوفل يقول: أمطعِم لم أخذُلك في يوم نجدة ولا معظم عند الأمور الجلائل أمطعم إن القوم ساموك خطة وإني متى أوكل فلست بوائل( ) (1/171)
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً عقوبة شر عاجلاً غير آجل( ) لقد كان كسب النبي صلى الله عليه وسلم عمه في صف الدفاع عنه، نصرًا عظيمًا، وقد استفاد صلى الله عليه وسلم من العرف القبلي فتمتع بحماية العشيرة، ومنع من أي اعتداء يقع عليه, وأعطى حرية التحرك والتفكير، وهذا يدل على فهم النبي صلى الله عليه وسلم للواقع الذي يتحرك فيه, وفي ذلك درس بالغ للدعاة إلى الله تعالى, للتعامل مع بيئتهم ومجتمعاتهم والاستفادة من القوانين والأعراف والتقاليد لخدمة دين الله. ثانيًا: محاولة تشويه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم: قام مشركو مكة بمحاولة تشويه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم, ولذلك نظمت قريش حربًا إعلامية ضده لتشويهه, قادها الوليد بن المغيرة، حيث اجتمع مع نفر من قومه، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر موسم الحج فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد حضر الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضا. - فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس, فقل وأقم لنا رأيًا نقول به. - قال: بل أنتم قولوا أسمع. - فقالوا: نقول كاهن. - فقال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة( ) الكاهن وسجعه. - فقالوا: نقول مجنون. - فقال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو تخنقه, ولا تخالجه ولا وسوسته. - فقالوا: نقول شاعر. - فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. - قالوا: فنقول ساحر. - قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفثه، ولا عقده. - قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ (1/172)
قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق( ) وإن فرعه لجناة( )، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا: ساحر، فقولوا: ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته( ). فأنزل الله تعالى في الوليد: ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ` وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا ` وَبَنِينَ شُهُودًا ` وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ` ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ` كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآَيَاتِنَا عَنِيدًا ` سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ` إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ` فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ` ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ` ثُمَّ نَظَرَ ` ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ` ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ` ` فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ` إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ` سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ) [المدثر: 11-26]. (1/173)
ويتضح من هذه القصة أن الحرب النفسية المضادة للرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن توجه اعتباطًا، وإنما كانت تعد بإحكام ودقة بين زعماء الكفار، وحسب قواعد معينة, هي أساس القواعد المعمول بها في تخطيط الحرب النفسية في العصر الحديث، كاختيار الوقت المناسب، فهم يختارون وقت تجمع الناس في موسم الحج، والاتفاق وعدم التناقض، وغير ذلك من هذه الأسس حتى تكون حملتهم منظمة، وبالتالي لها تأثير على وفود الحجيج، فتؤتي ثمارها المرجوة منها، ومع اختيارهم للزمان المناسب, فقد اختاروا أيضا مكانًا مناسبًا حتى تصل جميع الوفود القادمة إلى مكة( ), ويتضح من هذا الخبر عظمة النبي صلى الله عليه وسلم وقوته في التأثير بالقرآن على سامعيه، فالوليد بن المغيرة كبير قريش ومن أكبر ساداتهم، ومع ما يحصل عادة للكبراء من التكبر والتعاظم فإنه قد تأثر بالقرآن، ورق له، واعترف بعظمته ووصفه بذلك الوصف البليغ( ) وهو في حالة استجابة لنداء العقل، ولم تستطع تلك الحرب الإعلامية المنظمة أن تحاصر دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم, بل استطاع محمد صلى الله عليه وسلم أن يخترق حصار الأعداء, الذين لم يكتفوا بتنفير ساكني مكة من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتشويه سمعته عندهم, بل صاروا يتلقون الوافدين إليهم ليسمموا أفكارهم, وليحولوا بينهم وبين سماع كلامه، والتأثر بدعوته، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم النجاح في دعوته, بليغًا في التأثير على من خاطبه، حيث يؤثر على من جالسه بهيئته وسمته ووقاره, قبل أن يتكلم، ثم إذا تحدث أَسَرَ سامعيه بمنطقه البليغ المتمثل في العقل السليم, والعاطفة الجياشة بالحب والصفاء, والنية الخالصة في هداية الأمة, بوحي الله تعالى( ). ومن أبرز الأمثلة على قوته في التأثير بالكلمة المعبرة والأخلاق الكريمة, وقدرته على اختراق الجدار الحديدي الذي حاول زعماء مكة ضربه عليه, ما كان من موقفه مع ضماد الأزدي، وعمرو بن الطفيل (1/174)
| |
| | | ابو مسلم عضز فعال
عدد الرسائل : 51 تاريخ التسجيل : 03/12/2008
| موضوع: رد: السيرة النبوية المطهرة الخميس مارس 25, 2010 9:19 pm | |
| الدوسي، وأبي ذر، وعمرو بن عبسة رضي الله عنهم. 1- إسلام ضماد الأزدي t: وفد ضماد الأزدي إلى مكة, وتأثر بدعاوى المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى استقر في نفسه أنه مصاب بالجنون، كما يتهمه بذلك زعماء مكة، وكان ضماد من أزد شنوءة، وكان يعالج من الجنون, فلما سمع سفهاء مكة يقولون إن محمدًا صلى الله عليه وسلم مجنون فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي. قال: فلقيه، فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء. فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ومن يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد". قال: فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر,( ) فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "هات يدك أبايعك على الإسلام" قال: فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعلى قومك"، قال: وعلى قومي. وعندما قامت دولة الإسلام في المدينة, وكانت سرايا رسول الله تبعث, فمروا على قوم ضماد, فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة، فقال: ردوها. فإن هؤلاء قوم ضماد( ). دروس وفوائد: أ- دعاية قريش وتشويه شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، واتهامه بالجنون حمل ضمادًا على السير للرسول صلى الله عليه وسلم من أجل رقيته، فكانت الحرب الإعلامية المكية ضد الرسول صلى الله عليه وسلم سببًا في إسلامه وإسلام قومه. (1/175)
ب- تتضح صفتا الصبر والحلم في شخص النبي صلى الله عليه وسلم فقد عرض ضماد على رسول الله صلى الله عليه وسلم معالجته من مرض الجنون، وهذا موقف يثير الغضب، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل الأمر بحلم وهدوء، مما أثار إعجاب ضماد واحترامه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ج- أهمية هذه المقدمة التي يستفتح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض خطبه, فقد اشتملت على تعظيم الله وتمجيده, وصرف العبادة له سبحانه، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يجعلها بين يدي خطبه ومواعظه. د- تأثر ضماد بفصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم وقوة بيانه؛ لأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم انبعث من قلب مُليء إيمانًا ويقينًا وحكمة، فأصبح حديثه يصل إلى القلوب ويجذبها إلى الإيمان. هـ- في سرعة إسلام ضماد دليل على أن الإسلام دين الفطرة، وأن النفوس إذا تجردت من الضغوط الداخلية والخارجية فإنها غالبًا تتأثر وتستجيب، إما بسماع قول مؤثر، أو الإعجاب بسلوك قويم. و- حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على انتشار دعوته, حيث رأى في ضماد صدق إيمانه, وحماسته للإسلام، وقوة اقتناعه به، فدفعه ذلك إلى أخذ البيعة منه لقومه. ز- وفي هذا بيان واضح لأهمية الدعوة إلى الله تعالى، حيث جعلها النبي صلى الله عليه وسلم قرينة الالتزام الشخصي، فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الالتزام بالدين، فلم يكتف رسول الله بذلك بل أخذ منه البيعة على دعوة قومه إلى الإسلام. ح- حفظ المعروف والود لأهل السابقة والفضل "ردوها فإن هؤلاء من قوم ضماد"( ). ط- في الحديث بعض الوسائل التربوية التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم مع ضماد كالتأني في الحديث، وأسلوب الحوار، والتوجيه المباشر، وتظهر بعض الصفات في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم كمربٍّ، كالحلم والصبر، والتشجيع على الإكثار من الخيرات. 2- إسلام عمرو بن عَبَسة t: (1/176)
قال عمرو بن عبسة السلمي: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان, فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيًا، جرآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: ما أنت؟ قال: "أنا نبي" فقلت: وما نبي؟ قال: "أرسلني الله" فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: "أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يُشرك به شيء" قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: "حر وعبد" قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به فقلت: إني متبعك قال: "إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني". قال فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي, فجعلت أتخير الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة، حتى قدم عليَّ نفر من أهل يثرب من أهل المدينة فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سِراع، وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة فدخلت عليه، فقلت: يا رسول الله أتعرفني؟ قال: "نعم. أنت الذي لقيتني بمكة". وذكر بقية الحديث وفيه أنه سأله عن الصلاة والوضوء( ). دروس وعبر: أ- عمرو بن عبسة كان من الحنفاء المنكرين لعبادة غير الله تعالى في الجاهلية. ب- كانت الحروب الإعلامية الضروس التي شنتها قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم سببًا في تتبع عمرو بن عبسة لأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم. ج- جرأة وشدة قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد وجده عمرو بن عبسة مستخفيًا وقومه جرآء عليه. د- الأدب في الدخول على أهل الفضل والمنزلة, قال عمرو بن عبسة: "فتلطفت حتى دخلت عليه". (1/177)
هـ- الرسالة المحمدية تقوم على ركيزتين: حق الله، وحق الخلق قال صلى الله عليه وسلم: "أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان". وفي هذا دليل على أهمية صلة الأرحام حيث كان هذا الخلق العظيم ألصق ما يكون بدعوة الإسلام، مع اقترانه بالدعوة إلى التوحيد، وقد ظهر في هذا البيان الهجوم على الأوثان بقوة, مع أنها كانت أقدس شيء عند العرب، وفي هذا دلالة على أهمية إزالة معالم الجاهلية، وأن دعوة التوحيد لا تستقر ولا تنتشر إلا بزوال هذه المعالم. و- وفي اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم المبكر بإزالة الأوثان مع عدم قدرته على تنفيذ ذلك في ذلك الوقت دلالة على أن أمور الدين لا يجوز تأخير بيانها للناس بحجة عدم القدرة على تطبيقها، فالذين يبينون للناس من أمور الدين ما يستطيعون تطبيقه بسهولة وأمن، ويحجمون عن بيان أمور الدين التي يحتاج تطبيقها إلى شيء من المواجهة والجهاد, هؤلاء دعوتهم ناقصة، ولم يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي واجه الجاهلية وطغاتها وهو في قلة من أنصاره، والسيادة في بلده لأعدائه( ). ز- حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أمان صحابته وتوفير الجو الآمن، والسير بهم إلى بر الأمان وإبعادهم عن التعرض للمضايقات، قال لعمرو بن عبسة: "إنك لا تستطيع يومك هذا". ح- تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحوال أصحابه وعدم نسيان مواقفهم، قال: "أنت الذي لقيتني بمكة". ط- لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعطي كل من أسلم قائمة بأسماء أتباعه، فهذا ليس للسائل منه مصلحة ولا يتعلق به بلاغ؛ ولذلك لما سأل عمرو بن عبسة عمن تبعه قال: "حر وعبد" وهذه تورية كما قال ابن كثير: بأن هذا اسم جنس فهم منه عمرو أنه اسم عين( ). (1/178)
ي- في قوله صلى الله عليه وسلم: "ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي ظهرت فأتني" نأخذ منه درسًا في الدعوة: إن تكديس المريدين والأعضاء حيث المحنة والإيذاء ليس هو الأصل، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه نحو الرجوع إلى الأقوام، وأمر كما نرى بالهجرتين إلى الحبشة، فذلك تخفيف عن المسلمين وإبعاد لهم عن مواطن الخطر وستر لقوة المسلمين، وإعطاء فرصة للقائد حتى لا ينشغل، وضمان للسرية، وإفادة للمكان المرسل إليه، وإعداد للمستقبل وملاحظة لضمان الاستمرار وتجنب الاستئصال( ). وممن أسلم بسبب الحرب الإعلامية ضد الرسول صلى الله عليه وسلم الطفيل بن عمرو الدوسي، وجاءت قصته مفصلة في كتب السيرة، ويرى الدكتور أكرم ضياء العمري أنه لم يثبت منها إلا أنه دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للالتجاء إلى حصن دوس المنيع فأبى رسول الله ذلك( ) وأشارت رواية صحيحة إلى أن الطفيل دعا قومه إلى الإسلام ولقي منهم صدودا حتى طلب الطفيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالهداية( ) وكان الرسول آنئذ بالمدينة المنورة( ). 3- إسلام الحصين والد عمران رضي الله عنهما: (1/179)
جاءت قريش إلى الحصين -وكانت تعظمه- فقالوا له: كلم لنا هذا الرجل، فإنه يذكر آلهتنا، ويسبهم, فجاءوا معه حتى جلسوا قريبًا من باب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أوسعوا للشيخ" وعمران وأصحابه متوافرون فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك, أنك تشتم آلهتنا، وتذكرهم، وقد كان أبوك حصينة( ) وخيرًا؟ فقال: "يا حصين، إن أبي وأباك في النار, يا حصين، كم تعبد من إله؟" قال: سبعًا في الأرض، وواحدًا في السماء، فقال: "فإذا أصابك الضر من تدعو؟" قال: الذي في السماء، قال: "فإذا هلك المال من تدعو؟" قال: الذي في السماء، قال: "فيستجيب لك وحده وتشركهم معه، أرضيته في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك؟" قال: ولا واحدة من هاتين، قال: وعلمت أني لم أكلم مثله، قال: "يا حصين، أسلم تسلم" قال: إن لي قومًا وعشيرة، فماذا أقول؟ قال: "قل: اللهم أستهديك لأرشد أمري وزدني علمًا ينفعني" فقالها حصين فلم يقم حتى أسلم، فقام إليه عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بكى، وقال: "بكيت من صنيع عمران دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران، ولم يلتفت ناحيته، فلما أسلم قضى حقه فدخلني من ذلك الرقة" فلما أراد حصين أن يخرج قال لأصحابه: "قوموا فشيعوه إلى منزله" فلما خرج من سدة الباب رأته قريش، فقالوا: صبأ وتفرقوا عنه"( ). ولعل الذي حدا بالحصين والد عمران أن يسلم بهذه السرعة، سلامة فطرته، وحسن استعداده من ناحية، وقوة حجة الرسول صلى الله عليه وسلم وسلامة منطقه من ناحية أخرى( ). ونلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخدم أسلوب الحوار مع الحصين t, لغرس معاني التوحيد في نفسه ونسف العقائد الباطلة التي كان يعتقدها. 4- إسلام أبي ذر t: (1/180)
كان أبو ذر t منكرًا لحال الجاهلية، ويأبى عبادة الأصنام، وينكر على من يشرك بالله، وكان يصلي لله قبل إسلامه بثلاث سنوات, دون أن يخص قبلة بعينها بالتوجه، ويظهر أنه كان على نهج الأحناف، ولما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قدم إلى مكة وكره أن يسأل عنه حتى أدركه الليل، فاضطجع فرآه علي t فعرف أنه غريب فاستضافه ولم يسأله عن شيء، ثم غادره صباحًا إلى المسجد الحرام فمكث حتى أمسى، فرآه علي فاستضافه لليلة ثانية، وحدث مثل ذلك في الليلة الثالثة، ثم سأله عن سبب قدومه، فلما استوثق منه أبو ذر أخبره بأنه يريد مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له علي: فإنه حق وهو رسول الله, فإذا أصبحت فاتبعني, فإني إن رأيت شيئًا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني, فتبعه وقابل الرسول صلى الله عليه وسلم واستمع إلى قوله فأسلم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري" فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وثار القوم حتى أضجعوه, فأتى العباس بن عبد المطلب فحذرهم من انتقام غفار, والتعرض لتجارتهم التي تمر بديارهم إلى الشام، فأنقذه منهم( ). وكان أبو ذر قبل مجيئه قد أرسل أخاه، ليعلم له علم النبي صلى الله عليه وسلم, ويسمع من قوله ثم يأتيه، فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلامًا ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني( ) مما أردت( ) وعزم على الذهاب بنفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أخوه له: "وكن على حذر من أهل مكة فإنهم قد شنفوا له وتجهموا" ( ). دروس وعبر وفوائد: (1/181)
* شيوع ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القبائل، وأكثر من ساهم في ذلك مشركو قريش, بما اتخذوه من منهج التحذير والتشويه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولما جاء به، حتى وصل ذكره قبيلة غفار. * تميز أبي ذر بأنه رجل مستقل في رأيه, لا تؤثر عليه الإشاعات، ولا تستفزه الدعايات, فيقبل كل ما تنشره قريش؛ ولذلك أرسل أخاه يستوثق له من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن التأثيرات الإعلامية. * شدة اهتمام أبي ذر بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يكتف بالمعلومات العامة التي جاء بها أخوه أنيس بل أراد أن يقف على الحقيقة بعينها، حيث إن مجال البحث ليس عن رجل يأمر بالخير فحسب، وإنما عن رجل يذكر أنه نبي؛ ولذلك تحمل المشاق والمتاعب وشظف العيش، والغربة عن الأهل والوطن في سبيل الحق، فأبو ذر ترك أهله واكتفى من الزاد بجراب، وارتحل إلى مكة لمعرفة أمر النبوة( ). * التأني والتريث في الحصول على المعلومة: حيث تأنى أبو ذر t لما يعرفه من كراهية قريش لكل من يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم, وهذا التأني تصرف أمني تقتضيه حساسية الموقف, فلو سأل عنه لعلمت به قريش، وبالتالي قد يتعرض للأذى والطرد, ويخسر الوصول إلى هدفه, الذي من أجله ترك مضارب قومه, وتحمل في سبيله مصاعب ومشاق السفر. * الاحتياط والحذر قبل النطق بالمعلومة: حين سأل علي t أبا ذر t عن أمره وسبب مجيئه إلى مكة، لم يخبره بالرغم من أنه استضافه ثلاثة أيام، إمعانًا في الحذر، فاشترط عليه قبل أن يخبره أن يكتم عنه، وفي الوقت ذاته أن يرشده فهذا غاية في الاحتياط، وتم ما أراده. (1/182)
* التغطية الأمنية للتحرك: تم الاتفاق بين علي وأبي ذر رضي الله عنهما على إشارة أو حركة معينة، كأنه يصلح نعله، أو كأنه يريق الماء, وذلك عندما يرى علي t من يترصدهما، أو يراقبهما، فهذه تغطية أمنية لتحركهم اتجاه المقر (دار الأرقم). هذا إلى جانب أن أبا ذر كان يسير على مسافة من علي, فيعد هذا الموقف احتياطًا، وتحسبًا لكل طارئ قد يحدث أثناء التحرك. * هذه الإشارات الأمنية العابرة تدل على تفوق الصحابة رضي الله عنهم في الجوانب الأمنية، وعلى مدى توافر الحس الأمني لديهم, وتغلغله في نفوسهم, حتى أصبح سمة مميزة لكل تصرف من تصرفاتهم الخاصة والعامة، فأتت تحركاتهم منظمة ومدروسة، فما أحوجنا لمثل هذا الحس الذي كان عند الصحابة, بعد أن أصبح للأمن في عصرنا أهمية بالغة في زوال واستمرار الحضارات( )، وأصبحت له مدارسه الخاصة وتقنياته المتقدمة، وأساليبه ووسائله المتطورة، وأجهزته المستقلة, وميزانياته ذات الأرقام الكبيرة، وأضحت المعلومات عامة والمعلومات الأمنية خاصة، تباع بأغلى الأثمان، ويضحي في سبيل الحصول عليها بالنفس إذا لزم الأمر. وما دام الأمر كذلك فعلى المسلمين الاهتمام بالناحية الأمنية، حتى لا تصبح قضايانا مستباحة للأعداء، وأسرارنا في متناول أيديهم( ). * صدق أبي ذر في البحث عن الحق, ورجاحة عقله وقوة فهمه، فقد أسلم بعد عرض الإسلام عليه. * حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم واهتمامه بأمن أصحابه وسلامتهم: حيث أمر أبا ذر بالرجوع إلى أهله وكتمان أمره حتى يظهره الله. (1/183)
* شجاعة أبي ذر وقوته في الحق: فقد جهر بإسلامه في نوادي قريش, ومجتمعاتهم تحديًّا لهم وإظهارًا للحق( ) وكأنه فهم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكتمان ليس على الإيجاب بل على سبيل الشفقة عليه, فأعلمه بأنه به قوة على ذلك؛ ولهذا أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ويؤخذ منه جواز قول الحق عند من يخشى منه الأذية لمن قاله, وإن كان السكوت جائزًا، والتحقيق أن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والمقاصد, وبحسب ذلك يترتب وجود الأجر وعدمه( ). * كان موقف أبي ذر مفيدًا للدعوة, وساهم في مقاومة الحرب النفسية التي شنتها قريش ضد الرسول صلى الله عليه وسلم, وكانت ضربة معنوية أصابت كفار مكة في الصميم, بسبب شجاعة ورجولة أبي ذر وقدرته على التحمل، فقد سالت الدماء من جسده ثم عاد مرة أخرى للصدع بالشهادة. * مدافعة العباس عن المسلمين, وسعيه لتخليص أبي ذر من أذى قريش, دليل على تعاطفه مع المسلمين، وكان أسلوبه في رد الاعتداء يدل على خبرته بنفوس كفار مكة، حيث حذرهم من الأخطار التي ستواجهها تجارتهم عندما تمر بديار غفار( ). * امتثل أبو ذر للترتيبات الأمنية التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، فمع تعلق أبي ذر بالرسول صلى الله عليه وسلم وحبه له وحرصه على لقائه، إلا أنه امتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغادرة مكة إلى قومه، واهتم بصلاح وهداية الأهل, ودعوتهم للإسلام، فبدأ بأخيه، وأمه وقومه. (1/184)
* أثر أبي ذر الدعوي على قومه وقدرته على هدايتهم وإقناعهم بالإسلام، ومع ذلك فلا يصلح للإمارة, روى مسلم في صحيحه عن أبي قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: "يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها"( ). فلكل شخص مجاله الذي سخره الله فيه, وميدانه الذي يقوم بواجبه فيه، فلا يعني أنه نجح في الدعوة، وإقناع الناس أنه يصلح لكل شيء. * تفويض أبي ذر الإمامة إلى سيد غفار (أيماء بن رَحَضة) ومع تقدم أبي ذر عليه في الإسلام وعلو منزلته, يدل على مهارة إدارية, وهي عدم جمع كل الأعمال في يده، وتقدير الناس وإنزالهم منازلهم( ). * نجاح أبي ذر الباهر في الدعوة: حيث أسلمت نصف غفار، وأسلم نصفها الثاني بعد الهجرة( ). لقد فشلت محاولات التشويه والحرب الإعلامية, والحجر الفكري الذي كان الكفار يمارسونه على الدعوة الإسلامية في بداية عهدها؛ لأن صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أقوى من أصواتهم، ووسائله في التبليغ كانت أبلغ من وسائلهم، وثباته على مبدئه السامي, كان أعلى بكثير مما كان يتوقعه أعداؤه، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يجلس في بيته، ولم ينزو في زاوية من زوايا المسجد الحرام، ليستخفي بدعوته، وليقي نفسه من سهام أعدائه المسمومة، بل إنه غامر بنفسه، فكان يخرج في مضارب العرب, قبل أن يفدوا مكة، وكان يجهر بتلاوة القرآن في المسجد الحرام, ليسمع من كان في قلبه بقية من حياة, وأثارة من حرية وإباء, فيتسرب نور الهدى إلى مجامع لبه، وسويداء قلبه( ), وكان من هؤلاء ضماد الأزدي، وعمرو بن عبسة، وأبي ذر الغفاري، والطفيل بن عمرو الدوسي, وحصين والد عمران بن الحصين رضي الله عنهم, وهذا دليل قاطع، وبرهان ساطع, على فشل حملات التشويه التي شنتها قريش ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعلينا أن نعتبر ونستفيد من الدروس والعبر. (1/185)
ثالثًا: ما تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى والتعذيب: لم يفتر المشركون عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم, منذ أن صدع بدعوته إلى أن خرج من بين أظهرهم, وأظهره الله عليهم، ويدل على مبلغ هذا الأذى تلك الآيات الكثيرة التي كانت تتنزل عليه في هذه الفترة تأمره بالصبر، وتدله على وسائله وتنهاه عن الحزن، وتضرب له أمثلة من واقع إخوانه المرسلين، مثل قوله تعالى: ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً ) [المزمل: 10]. وقوله: ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ) [الإنسان: 24]. وقوله: ( وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) [النمل: 70]. وقوله: ( مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ )[فصلت: 43]. وهذه أمثلة تدل على ما تعرض له صلى الله عليه وسلم من الإيذاء: 1- قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه( ) بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته, أو لأعفرنَّ وجهه في التراب. قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجِئَهم( ) منه إلا وهو ينكص على عقبيه( ) ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا"( ). (1/186)
وفي حديث ابن عباس قال: كان النبي يصلي فجاء أبو جهل: فقال: (ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فزبره( ) فقال: أبو جهل: إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثرُ مني، فأنزل الله تعالى ( فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ` سَنَدْعُو الزَّبَانِيَةَ ) [العلق: 17، 18] قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله"( ). 2- وعن ابن مسعود t: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، وجمع من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جَزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسَلاها، فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة عليها السلام -وهي جويرية- فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم, فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش" ثم سمّى: "اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد" قال ابن مسعود: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب( ) -قليب بدر-، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأتبع أصحاب القليب لعنة"( ). وقد بينت الروايات الصحيحة الأخرى أن الذي رمى الفرث عليه هو عقبة بن أبي معيط، وأن الذي حرضه هو أبو جهل( )، وأن المشركين تأثروا لدعوة الرسول، وشق عليهم الأمر؛ لأنهم يرون أن الدعوة بمكة مستجابة( ). (1/187)
3- اجتماع الملأ من قريش وضربهم الرسول صلى الله عليه وسلم: اجتمع أشراف قريش يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط, سفه أحلامنا وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا وثبة رجل واحد, وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا - لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم- فيقول: "نعم، أنا الذي أقول ذلك", ثم أخذ رجل منهم بمجمع ردائه، فقام أبو بكر t دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله( ). 4- كان أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم من أشد الناس عداوة له، وكذلك كانت امرأته أم جميل من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم, وكانت تسعى بالإفساد بينه وبين الناس بالنميمة, وتضع الشوك في طريقه، والقذر على بابه فلا عجب, أن نزل فيهما قول الله تعالى: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ` مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ` سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ` وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ` فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ) [المسد] فحين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها فهر من حجارة، فلما وقفت عليهما قالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه. ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما تراها رأتك؟ فقال: "لقد أخذ الله ببصرها عني"، وكانت تنشد: مذمم أبينا.. ودينه قلينا.. وأمره عصينا.. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرح؛ لأن المشركين يسبون مذممًا يقول: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذممًا ويلعنون مذممًا وأنا محمد" ( ). (1/188)
وقد بلغ من أمر أبي لهب أنه كان يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسواق والمجامع، ومواسم الحج ويكذبه( ). هذا بعض ما لاقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذية المشركين، وقد ختم المشركون أذاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاولة قتله في أواخر المرحلة المكية( ). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما لاقاه من أذى قريش قبل أن ينال الأذى أحدًا من أتباعه يقول: "لقد أخفت في الله عز وجل وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال"( ). ومع ما له صلى الله عليه وسلم من عظيم القدر ومنتهى الشرف، إلا أنه قد حظي من البلاء بالحِمْل الثقيل، والعناء الطويل, منذ أول يوم صدع فيه بالدعوة، ولقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم من سفهاء قريش أذى كثيرًا، فكان إذا مر على مجالسهم بمكة استهزءوا به، وقالوا ساخرين: هذا ابن أبي كبشة( ) يُكلم من السماء، وكان أحدهم يمر على الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول له ساخرًا: أما كُلمت اليوم من السماء؟ ( ). (1/189)
ولم يقتصر الأمر على مجرد السخرية والاستهزاء والإيذاء النفسي، بل تعداه إلى الإيذاء البدني، بل قد وصل الأمر إلى أن يبصق عدو الله أمية بن خلف في وجه النبي صلى الله عليه وسلم( ), وحتى بعد هجرته عليه السلام إلى المدينة لم تتوقف حدة الابتلاء والأذى، بل أخذت خطًّا جديدا بظهور أعداء جدد، فبعد أن كانت العداوة تكاد تكون مقصورة على قريش بمكة، صار له صلى الله عليه وسلم أعداء من المنافقين المجاورين بالمدينة، ومن اليهود والفرس والروم، وأحلافهم، وبعد أن كان الأذى بمكة شتمًا وسخرية، وحصارًا، وضربًا، صار مواجهة عسكرية مسلحة، حامية الوطيس، فيها كر وفر وضرب وطعن، فكان ذلك بلاء في الأموال والأنفس على السواء( ), وهكذا كانت فترة رسالته صلى الله عليه وسلم وحياته سلسلة متصلة من المحن والابتلاء، فما وهن لما أصابه في سبيل الله، بل صبر واحتسب حتى لقي ربه( ). لقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم من الفتن والأذى والمحن ما لا يخطر على بال، في مواقف متعددة، وكان ذلك على قدر الرسالة التي حملها، ولذلك استحق المقام المحمود, والمنزلة الرفيعة عند ربه، وقد صبر على ما أصابه، إشفاقًا على قومه أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم الماضية من العذاب، وليكون قدوة للدعاة والمصلحين( )، فإذا كان الاعتداء الأثيم، قد نال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعد هناك أحد, لكرامته, هو أكبر من الابتلاء والمحنة، وتلك سنة الله في الدعوات. فعن أبي سعيد الخدري t قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة"( ). رابعًا: ما تعرض له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى والتعذيب: 1- ما لاقاه أبو بكر الصديق t: (1/190)
تحمل الصحابة رضوان الله عليهم من البلاء العظيم ما تنوء به الرواسي الشامخات وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء، فلقد أوذي أبو بكر t، وحُثي على رأسه التراب، وضرب في المسجد الحرام بالنعال، حتى ما يعرف وجهه من أنفه, وحُمل إلى بيته في ثوبه، وهو ما بين الحياة والموت( ). فقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها, أنه لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ألح أبو بكر t على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال: "يا أبا بكر إنا قليل" فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوهم في نواحي المسجد ضربًا شديدًا، ووُطئ أبو بكر وضرب ضربًا شديدًا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويُحرِّفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر t، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاءت بنو تيم يتعادون, فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة, فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة (والده) وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار، فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت (1/191)
أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله. فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك، قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، إنني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح. قل: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم، قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعامًا ولا أشرب شرابًا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجْل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورقَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها, وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله لها, عسى الله أن يستنقذها بك من النار، قال: فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم, ودعاها إلى الله فأسلمت( ). دروس وعبر وفوائد: أ- حرص أبي بكر t على إعلان الإسلام، وإظهاره أمام الكفار, وهذا يدل على قوة إيمانه وشجاعته، وقد تحمل الأذى العظيم حتى إن قومه كانوا لا يشكون في موته. ب- مدى الحب الذي كان يكنه أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث إنه- وهو في تلك الحال الحرجة- يسأل عنه ويلح إلحاحًا عجيبًا في السؤال، ثم يحلف ألا يأكل ولا يشرب حتى يراه، كيف يتم ذلك وهو لا يستطيع النهوض بل المشي؟ ولكنه الحب في الله، والعزائم التي تقهر الصعاب، وكل مصاب في سبيل الله ومن أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم هين ويسير. (1/192)
ج- إن العصبية القبلية كان لها في ذلك الحين دور في توجيه الأحداث والتعامل مع الأفراد حتى مع اختلاف العقيدة، فهذه قبيلة أبي بكر تهدد بقتل عتبة إن مات أبو بكر( ). د- الحس الأمني لأم جميل -رضي الله عنها- فقد برز في عدة تصرفات لعل من أهمها: * إخفاء الشخصية والمعلومة عن طريق الإنكار: عندما سألت أم الخير أم جميل، عن مكان الرسول صلى الله عليه وسلم أنكرت أنها تعرف أبا بكر ومحمد بن عبد الله، فهذا تصرف حذر سليم، إذ لم تكن أم الخير ساعتئذ مسلمة، وأم جميل كانت تخفي إسلامها، ولا تود أن تعلم به أم الخير، وفي ذات الوقت أخفت عنها مكان الرسول صلى الله عليه وسلم مخافة أن تكون عينًا لقريش( ). * استغلال الموقف لإيصال المعلومة: فأم جميل أرادت أن تقوم بإيصال المعلومة بنفسها لأبي بكر t, وفي ذات الوقت لم تظهر ذلك لأم الخير إمعانًا في السرية والكتمان، فاستغلت الموقف لصالحها قائلة: "إن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك فعلت", وقد عرضت عليها هذا الطلب بطريقة تنم عن الذكاء, وحسن التصرف، فقولها: "إن كنت تحبين" وهي أمه وقولها: "إلى ابنك" ولم تقل لها: إلى أبي بكر، كل ذلك يحرك في أم الخير عاطفة الأمومة، فغالبًا ما ترضخ لهذا الطلب، وهذا ما تم بالفعل، حيث أجابتها بقولها: "نعم" وبالتالي نجحت أم جميل في إيصال المعلومة بنفسها. * استغلال الموقف في كسب عطف أم أبي بكر: يبدو أن أم جميل حاولت أن تكسب عطف أم الخير، فاستغلت وضع أبي بكر t الذي يظهر فيه صريعًا دنفًا، فأعلنت بالصياح، وسبَّت من قام بهذا الفعل بقولها: "إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر" فلا شك أن هذا الموقف من أم جميل يشفي بعض غليل أم الخير، من الذين فعلوا ذلك بابنها، فقد تكن شيئًا من الحب لأم جميل, وبهذا تكون أم جميل كسبت عطف أم الخير وثقتها, الأمر الذي يسهل مهمة أم جميل في إيصال المعلومة إلى أبي بكر t( ). * الاحتياط والتأني قبل النطق بالمعلومة: (1/193)
لقد كانت أم جميل في غاية الحيطة والحذر, من أن تتسرب هذه المعلومة الخطيرة عن مكان قائد الدعوة، فهي لم تطمئن بعد إلى أم الخير؛ لأنها ما زالت مشركة آنذاك، وبالتالي لم تأمن جانبها، لذا ترددت عندما سألها أبو بكر t, عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: "هذه أمك تسمع؟" فقال لها: لا شيء عليك منها، فأخبرته ساعتها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سالم صالح( ), وزيادة في الحيطة والحذر والتكتم لم تخبره بمكانه, إلا بعد أن سألها عنه قائلا: أين هو؟ فأجابته في دار الأرقم. * تخير الوقت المناسب لتنفيذ المهمة: حين طلب أبو بكر t الذهاب إلى دار الأرقم، لم تستجب له أم جميل على الفور، بل تأخرت عن الاستجابة، حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس، خرجت به ومعها أمه يتكئ عليهما، فهذا هو أنسب وقت للتحرك وتنفيذ هذه المهمة حيث تنعدم الرقابة من قبل أعداء الدعوة، مما يقلل من فرص كشفها، وقد نفذت المهمة بالفعل دون أن يشعر بها الأعداء, حتى دخلت أم جميل وأم الخير بصحبة أبي بكر إلى دار الأرقم، وهذا يؤكد أن الوقت المختار كان أنسب الأوقات( ). د- قانون المنحة بعد المحنة، حيث أسلمت أم الخير أم أبي بكر, بسبب رغبة الصديق في إدخال أمه إلى حظيرة الإسلام،
| |
| | | ابو مسلم عضز فعال
عدد الرسائل : 51 تاريخ التسجيل : 03/12/2008
| موضوع: رد: السيرة النبوية المطهرة الخميس مارس 25, 2010 9:22 pm | |
| * تخير الوقت المناسب لتنفيذ المهمة: حين طلب أبو بكر t الذهاب إلى دار الأرقم، لم تستجب له أم جميل على الفور، بل تأخرت عن الاستجابة، حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس، خرجت به ومعها أمه يتكئ عليهما، فهذا هو أنسب وقت للتحرك وتنفيذ هذه المهمة حيث تنعدم الرقابة من قبل أعداء الدعوة، مما يقلل من فرص كشفها، وقد نفذت المهمة بالفعل دون أن يشعر بها الأعداء, حتى دخلت أم جميل وأم الخير بصحبة أبي بكر إلى دار الأرقم، وهذا يؤكد أن الوقت المختار كان أنسب الأوقات( ). د- قانون المنحة بعد المحنة، حيث أسلمت أم الخير أم أبي بكر, بسبب رغبة الصديق في إدخال أمه إلى حظيرة الإسلام، وطلبه من الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء لها، لما رأى من برها به، وقد كان t حريصًا على هداية الناس الآخرين فكيف بأقرب الناس إليه( ). هـ- إن من أكثر الصحابة الذين تعرضوا لمحنة الأذى والفتنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, أبا بكر الصديق t نظرا لصحبته الخاصة له، والتصاقه به في المواطن التي كان يتعرض فيها للأذى من قومه، فينبري الصديق مدافعًا عنه وفاديًا إياه بنفسه، فيصيبه من أذى القوم وسفههم, هذا مع أن الصديق يعتبر من كبار رجال قريش المعروفين بالعقل والإحسان( ). 2- بلال رضي الله عنه: (1/194)
تضاعف أذى المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه, حتى وصل إلى ذروة العنف, وخاصة في معاملة المستضعفين من المسلمين، فنكلت بهم لتفتنهم عن عقيدتهم وإسلامهم، ولتجعلهم عبرة لغيرهم، ولتنفس عن حقدها, وغضبها, بما تصبه عليهم من العذاب. قال عبد الله بن مسعود t: "أول من أظهر الإسلام سبعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه، فأعطوه الولدان, وأخذوا يطوفون به شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد" ( ). (1/195)
لم يكن لبلال t ظهر يسنده، ولا عشيرة تحميه، ولا سيوف تذود عنه، ومثل هذا الإنسان في المجتمع الجاهلي المكي, يعادل رقمًا من الأرقام، فليس له دور في الحياة إلا أن يخدم ويطيع، ويباع ويشترى كالسائمة، أما أن يكون له رأي, أو يكون صاحب فكر، أو صاحب دعوة, أو صاحب قضية، فهذه جريمة شنعاء في المجتمع الجاهلي المكي تهز أركانه وتزلزل أقدامه، ولكن الدعوة الجديدة التي سارع لها الفتيان, وهم يتحدون تقاليد وأعراف آبائهم الكبار لامست قلب هذا العبد المرمي المنسي، فأخرجته إنسانًا جديدًا على الوجود( ), فقد تفجرت معاني الإيمان في أعماقه بعد أن آمن بهذا الدين، وانضم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه في موكب الإيمان العظيم, وها هو الآن يتعرض للتعذيب من أجل عقيدته ودينه, فقصد وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم الصديق, موقع التعذيب وفاوض أمية بن خلف وقال له: "ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى! قال: أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى، فقال أبو بكر: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به، قال: قد قبلت، فقال: هو لك فأعطاه أبو بكر الصديق t غلامه ذلك وأخذه فاعتقه"( )، وفي رواية: اشتراه بسبع أواق, أو بأربعين أوقية ذهبًا( )، ما أصبر بلالاً وما أصلبه t, فقد كان صادق الإسلام، طاهر القلب، ولذلك صَلُبَ, ولم تلن قناته أمام التحديات وأمام صنوف العذاب، وكان صبره وثباته مما يغيظهم ويزيد حنقهم, خاصة أنه كان الرجل الوحيد من ضعفاء المسلمين الذي ثبت على الإسلام فلم يوات الكفار فيما يريدون, مرددًا كلمة التوحيد بتحدٍّ صارخ، وهانت عليه نفسه في الله وهان على قومه( ). (1/196)
وبعد كل محنة منحة فقد تخلص بلال من العذاب والنكال، وتخلص من أسر العبودية، وعاش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية حياته ملازمًا له، ومات راضيًا عنه مبشرًا إياه بالجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم لبلال: "... فإني سمعت خشف نعليك بين يدي في الجنة"( ). وأما مقامه عند الصحابة فقد كان عمر t يقول: "أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا" يعني بلالاً( ). وأصبح منهج الصديق في فك رقاب المستضعفين, ضمن الخطة التي تبنتها القيادة الإسلامية لمقاومة التعذيب الذي نزل بالمستضعفين، فمضى يضع ماله في تحرير رقاب المؤمنين المنضمين إلى هذا الدين الجديد من الرق: (.. ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب, بلال سابعهم: عامر بن فهيرة شهد بدرًا وأحدًا، وقتل يوم بئر معونة شهيدًا، وأم عُبيس، وزنِّيرة وأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: "كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان، فرد الله بصرها"( ) وأعتق النهدية وبنتها وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمرَّ بهما، وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدًا: فقال أبو بكر t: حِل( ) يا أم فلان، فقالت: حل أنت، أفسدتهما فأعتقهما، قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا، قال: قد أخذتهما وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها، قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال: وذلك إن شئتما"( ). وهنا وقفة تأمل ترينا كيف سوَّى الإسلام بين الصديق والجاريتين حتى خاطبتاه، خطاب الند للند، لا خطاب المسود للسيد، وتقبل الصديق على شرفه وجلالته في الجاهلية والإسلام منهما ذلك، مع أنه له يدًا عليهما بالعتق، وكيف صقل الإسلام الجاريتين حتى تخلقتا بهذا الخلق الكريم، وكان يمكنهما وقد أعتقتا وتحررتا من الظلم, أن تدعا لها طحينها يذهب أدراج الرياح، أو يأكله الحيوان والطير، ولكنهما أبتا، تفضلاً, إلا أن تفرغا منه وترداه إليها( ). (1/197)
ومر الصديق بجارية بني مؤمل, حي من بني عدي بن كعب, وكانت مسلمة, وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك وهو يضربها، حتى إذا ملَّ قال: إني أعتذر إليك, إني لم أتركك إلا عن ملالة فتقول: كذلك فعل الله بك, فابتاعها أبو بكر فأعتقها( ). هكذا كان واهب الحريات، ومحرر العبيد، شيخ الإسلام الوقور، الذي عرف بين قومه بأنه يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، لم ينغمس في إثم في جاهليته، أليف مألوف, يسيل قلبه رقة ورحمة على الضعفاء، والأرقاء، أنفق جزءًا كبيرًا من ماله في شراء العبيد وأعتقهم لله، وفي الله، قبل أن تنزل التشريعات الإسلامية المحببة في العتق، والواعدة عليه أجزل الثواب( ). (1/198)
كان المجتمع المكي يتندر بأبي بكر t الذي يبذل هذا المال كله لهؤلاء المستضعفين, أما في نظر الصديق، فهؤلاء إخوانه في الدين الجديد، فكل واحد من هؤلاء لا يساوي عنده مشركي الأرض وطغاتها، وبهذه العناصر وغيرها تبنى دولة التوحيد، وتصنع حضارة الإسلام الرائدة والرائعة( ), ولم يكن الصديق يقصد بعمله هذا محمدة، ولا جاهًا، ولا دنيا، وإنما كان يريد وجه الله ذا الجلال والإكرام، لقد قال له أبوه ذات يوم: "يا بني إني أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالاً جلدًا يمنعونك، ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر t: يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل فلا عجب إذا كان الله سبحانه أنزل في شأن الصديق قرآنًا يتلى إلى يوم الدين، قال تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ` وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ` فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ` وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ` وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ` فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ` وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ` إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ` وَإِنَّ لَنَا لَلآَخِرَةَ وَالأُولَى ` فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ` لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأشْقَى ` الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ` وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى ` الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ` وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى ` إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى ` وَلَسَوْفَ يَرْضَى )( ) [الليل: 5-21]. (1/199)
كان هذا التكافل بين أفراد الجماعة الإسلامية الأولى, قمة من قمم الخير والعطاء، وأصبح هؤلاء العبيد بالإسلام أصحاب عقيدة وفكرة, يناقشون بها وينافحون عنها، ويجاهدون في سبيلها، وكان إقدام أبي بكر t على شرائهم ثم إعتاقهم دليلاً على عظمة هذا الدين, ومدى تغلغله في نفسية الصديق t، وما أحوج المسلمين اليوم أن يحيوا هذا المثل الرفيع، والمشاعر السامية ليتم التلاحم والتعايش, والتعاضد بين أبناء الأمة التي يتعرض أبناؤها للإبادة الشاملة من قبل أعداء العقيدة والدين. 3- عمار بن ياسر وأبوه وأمه رضي الله عنهم: كان والد عمار بن ياسر من بني عنس من قبائل اليمن، قدم مكة وأخواه الحارث ومالك يطلبون أخًا لهم، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، وحالف أبا حذيفة بن المغيرة المخزومي,( ) فزوجه أبو حذيفة أَمّة له يقال لها: سُمية بنت خياط، فولدت له عمارًا، فأعتقه أبو حذيفة الذي لم يلبث أن مات، وجاء الإسلام فأسلم ياسر وسمية وعمار, وأخوه عبد الله بن ياسر، فغضب عليهم مواليهم بنو مخزوم غضبًا شديدًا صبوا عليهم العذاب صبًّا، كانوا يخرجونهم إذا حميت الظهيرة فيعذبونهم برمضاء مكة( ) ويقلبونهم ظهرًا لبطن,( ) فيمر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فيقول: "صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة" ( ) وجاء أبو جهل إلى سمية فقال لها: ما آمنت بمحمد إلا لأنك عشقته لجماله، فأغلظت له القول, فطعنها بالحربة في ملمس العفة فقتلها، فهي أول شهيدة في الإسلام رضي الله عنها,( ) وبذلك سطرت بهذا الموقف الشجاع أعلى وأغلى ما تقدمه امرأة في سبيل الله، لتبقى كل امرأة مسلمة, حتى يرث الله الأرض ومن عليها ترنو إليها ويهفو قلبها في الاقتداء بها، فلا تبخل بشيء في سبيل الله، بعد أن جادت سمية بنت خياط بدمها في سبيل الله( ). (1/200)
وقد جاء في حديث عثمان t قال: "أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذًا بيدي نتمشى بالبطحاء، حتى أتى على آل عمار بن ياسر، فقال أبو عمار: يا رسول الله الدهر هكذا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اصبر"، ثم قال: "اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت"( ) ثم لم يلبث ياسر أن مات تحت العذاب. لم يكن في وسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقدم شيئًا لآل ياسر, رموز الفداء والتضحية, فليسوا بأرقاء حتى يشتريهم ويعتقهم، وليست لديه القوة ليستخلصهم من الأذى والعذاب، فكل ما يستطيعه صلى الله عليه وسلم أن يزف لهم البشرى بالمغفرة والجنة, ويحثهم على الصبر, لتصبح هذه الأسرة المباركة قدوة للأجيال المتلاحقة، ويشهد الموكب المستمر على مدار التاريخ هذه الظاهرة "صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة"( ). أما عمار t فقد عاش بعد أهله زمنًا يكابد من صنوف العذاب ألوانًا، فهو يصنف في طائفة المستضعفين الذين لا عشائر لهم بمكة تحميهم، وليست لهم منعة ولا قوة، فكانت قريش تعذبهم في الرمضاء بمكة أنصاف النهار, ليرجعوا عن دينهم، وكان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول( )، ولما أخذه المشركون ليعذبوه لم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما وراءك؟" قال: شر، والله ما تركني المشركون حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: "كيف تجد قلبك؟" قال: مطمئنًا بالإيمان، قال: "فإن عادوا فعد"( )، ونزل الوحي بشهادة الله تعالى على صدق إيمان عمار، قال تعالى: ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [النحل: 106] وقد حضر المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم( ). (1/201)
وفي حادثتي بلال وعمار فقه عظيم يتراوح بين العزيمة والرخصة, يحتاج من الدعاة أن يستوعبوه, ويضعوه في إطاره الصحيح, وفي معاييره الدقيقة دون إفراط أوتفريط. 4- سعد بن أبي وقاص t: تعرض للفتنة من قبل والدته الكافرة، فامتنعت عن الطعام والشراب, حتى يعود إلى دينها. قال ابن كثير: "قال الطبراني في كتاب العشرة إن سعدًا قال: أنزلت فيّ هذه الآية: ( وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا ) [العنكبوت: 8]. قال: كنت رجلاً برًا بأمي فلما أسلمتُ قالت: يا سعد: ما هذا الدين الذين أراك قد أحدثت، لتدعنَّ دينك هذا, أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي, فيقال: يا قاتل أمه، فقلت: لا تفعلي يا أمه فإني لا أدع ديني لشيء, فَمَكَثت يومًا وليلة لم تأكل, فأصبحت قد جهدت، فمكثت يومًأ آخر وليلة أخرى لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يومًا وليلة أخرى لا تأكل, فأصبحت قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت يا أُمَّه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي, فأكلت( ). وروى مسلم: أن أم سعد حلفت ألا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمتَ أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك وأنا آمرك بهذا، قال: مكثت ثلاثًا حتى غَشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له: عُمارة فسقاها فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله عز وجل في القرآن الكريم هذه الآية: ( وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي... ) وفيها ( وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ). قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا ثم أوجروها( ), فمحنة سعد محنة عظيمة، وموقفه موقف فذ يدل على مدى تغلغل الإيمان في قلبه، وأنه لا يقبل فيه مساومة مهما كانت النتيجة( ). (1/202)
ومن خلال تتبع القرآن المكي نجد أنه رغم قطع الولاء سواء في الحب أو النصرة بين المسلم وأقاربه الكفار، فإن القرآن أمر بعدم قطع صلتهم وبرهم والإحسان إليهم ومع ذلك فلا ولاء بينهم؛ لأن الولاء لله ورسوله ودينه والمؤمنين( ). 5- مصعب بن عمير t كان مصعب بن عمير t أنعم غلام بمكة، وأجوده حلة، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه مليئة كثيرة المال تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقه، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرمي من النعال( ), وبلغ من شدة كلف أمه به أنه يبيت وقعب الحيس( ) عند رأسه فإذا استيقظ من نومه أكل( ), ولما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم دخل عليه فأسلم وصدق به، وخرج فكتم إسلامه خوفًا من أمه وقومه، فكان يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًّا، فبصر به عثمان بن طلحة( ) يصلي, فأخبر أمه وقومه، فأخذوه وحبسوه، فلم يزل محبوسًا حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى( ). قال سعد بن أبي وقاص t: لقد رأيته جهد في الإسلام جهدًا شديدًا حتى لقد رأيت جلده يتحشّف، أي يتطاير، تحشف جلد الحية عنها، حتى إن كنا لنعرضه على قتبنا فنحمله مما به من الجهد( ). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما ذكره قال: "ما رأيت بمكة أحدًا أحسن لمة ولا أرق حلة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير"( )، ومع كل ما أصابه t من بلاء ومحنة ووهن في الجسم والقوة، وجفاء من أقرب الناس إليه, لم يقصر عن شيء مما بلغه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخير, والفضل، والجهاد في سبيل الله تعالى, حتى أكرمه الله تعالى بالشهادة يوم أحد( ). (1/203)
يعتبر مصعب t نموذجًا من تربية الإسلام للمترفين الشباب، للمنعمين من أبناء الطبقات الغنية المرفهة، لأبناء القصور والمال والجاه، للمعجبين بأشخاصهم، المبالغين في تأنقهم، الساعين وراء مظاهر الحياة كيف تغيرت؟ ووقف بعد إسلامه قويًّا لا يضعف ولا يتكاسل ولا يتخاذل، ولا تقهره نفسه وشهواته فيسقط في جحيم النعيم الخادع( ). لقد ودع ماضيه بكل ما فيه من راحة ولذة وهناءة، يوم دخل هذا الدين وبايع تلك البيعة، وكان لا بد له من المرور في درب المحنة لكي يصقل إيمانه ويتعمق يقينه، وكان مصعب مطمئنا راضيا رغم ما حوله من جبروت ومخاوف، ورغم ما نزل به من البؤس والفقر والعذاب، ورغم ما فقده من مظاهر النعم والراحة( ), فقد تعرض لمحنة الفقر، ومحنة فقد الوجاهة والمكانة عند أهله، ومحنة الأهل والأقارب والعشيرة، ومحنة الجوع والتعذيب، ومحنة الغربة والابتعاد عن الوطن، فخرج من كل تلك المحن منتصرا بدينه وإيمانه، مطمئنا أعمق الاطمئنان، ثابتًا أقوى الثبات( ) ولنا معه وقفات في المدينة بإذن الله تعالى. 6- خباب بن الأرت t: كان خباب t قينا( ), وأراد الله له الهداية مبكرًا، فدخل في الإسلام قبل دخول دار الأرقم بن أبي الأرقم( ), فكان من المستضعفين الذين عذبوا بمكة لكي يرتد عن دينه، وصل به العذاب بأن ألصق المشركون ظهره بالأرض على الحجارة المحماة حتى ذهب ماء مَتْنه( ). (1/204)
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يألف خبابًا ويتردد عليه بعد أن أسلم، فلما علمت مولاته بذلك، وهي أم أنمار الخزاعية، أخذت حديدة قد أحمتها، فوضعتها على رأسه، فشكا خبابًا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "اللهم انصر خبابًا"، فاشتكت مولاته رأسها، فكانت تعوي مع الكلاب، فقيل لها: اكتوي، فجاءت إلى خباب ليكويها، فكان يأخذ الحديدة قد أحماها فيكوي بها رأسها، وإن في ذلك لعبرة لمن أراد أن يعتبر, ما أقرب فرج الله ونصره من عباده المؤمنين الصابرين، فانظر كيف جاءت إليه بنفسها تطلب منه أن يكويها على رأسها( )، ولما زاد ضغط المشركين على ضعفاء المسلمين ولقوا منهم شدة، جاء خباب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقال له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا، فقعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو محمر وجهه، قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"( ). وللشيخ سلمان العودة حفظه الله تعليق لطيف على هذا الحديث: يا سبحان الله ماذا جرى حتى احمرَّ وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقعد من ضجعته؟ وخاطب أصحابه بهذا الأسلوب القوي المؤثر، ثم عاتبهم على الاستعجال؟ لأنهم طلبوا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم؟ كلا: حاشاه من ذلك، وهو الرءوف الرحيم بأمته. إن أسلوب الطلب: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ يوحي بما وراءه وأنه صادر من قلوب أمضَّها العذاب، وأنهكها الجهد، وهدتها البلوى فهي تلتمس الفرج العاجل، وتستبطئ النصر, فتستدعيه. (1/205)
وهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن الأمور مرهونة بأوقاتها، وأسبابها، وأن قبل النصر البلاء، فالرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة. ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) [يوسف: 110]. ويلمس عليه السلام من واقع أصحابه وملابسات أحوالهم، برمهم بالعذاب الذي يلاقون، حتى يفتنوا عن دينهم، ويستعلي عليهم الكفرة، ويموت منهم من يموت تحت التعذيب. وقد لا يكون من الميسور أن يدرك المرء, بمجرد قراءة النص، حقيقة الحال التي كانوا عليها حين طلبوا منه عليه الصلاة والسلام الدعاء والاستنصار، ولا أن يعرف المشاعر والإحساسات التي كانت تثور في نفوسهم إلا أن يعيش حالاً قريبًا من حالهم ويعاني في سبيل الله بعض ما عانوا. لقد كان صلى الله عليه وسلم يربيهم على: أ- التأسي بالسابقين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم, في تحمل الأذى في سبيل الله ويضرب لهم الأمثلة في ذلك. ب- التعلق بما أعده الله في الجنة للمؤمنين الصابرين من النعيم، وعدم الاغترار بما في أيدي الكافرين من زهرة الحياة الدنيا. ج- التطلع للمستقبل الذي ينصر الله فيه الإسلام في هذه الحياة الدنيا، ويذل فيه أهل الذل والعصيان. وثمة أمر آخر كبير ألا وهو: أنه صلى الله عليه وسلم مع هذه الأشياء كلها كان يخطط ويستفيد من الأسباب المادية المتعددة لرفع الأذى والظلم عن أتباعه، وكف المشركين عن فتنتهم، وإقامة الدولة التي تجاهد في سبيل الدين، وتتيح الفرصة لكل مسلم أن يعبد ربه حيث شاء، وتزيل الحواجز والعقبات التي تعترض طريق الدعوة إلى الله( ). (1/206)
وقد تحدث خباب t عن بعض ما كان يلقون من المشركين من عنت, وسوء معاملة ومساومة على الحقوق, حتى يعودوا إلى الكفر, قال: كنت قينًا وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال لي: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لن أكفر حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني إن مت ثم بعثت جئتني, ولي ثَمَّ مالٌ وولد فأعطيتك, فأنزل الله: ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا ) إلى قوله ( فَرْدًا )( ). وذكر أن عمر بن الخطاب t في خلافته سأل خبابًا عما لقي في ذات الله تعالى، فكشف خباب عن ظهره، فإذا هو قد برص، فقال عمر: ما رأيت كاليوم، فقال خباب: يا أمير المؤمنين لقد أوقدوا لي نارا ثم سلقوني فيها، ثم وضع رَجُل رجله على صدري فما اتقيت الأرض أو قال: برد الأرض- إلا بظهري، وما أطفأ تلك النار إلا شحمي( ). 7- عبد الله بن مسعود t: كان منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملته للناس حكيمًا، وكان يعامل الأكابر وزعماء القبائل بلطف وترفق, وكذلك الصبيان الصغار, فهذا ابن مسعود t يحدثنا عن لقائه اللطيف برسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلامًا يافعًا أرعى غنما لعقبة بن أبي مُعَيط فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فقال: "يا غلام هل من لبن؟" قلت: نعم ولكني مؤتمن، قال: "فهل من شاة لم ينز عليها فحل؟" فأتيته بشاة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في إناء فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: "اقلص"، فقلص قال: ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول، قال: فمسح رأسي وقال: "يرحمك الله فإنك غليم معلم" ( ). (1/207)
وهكذا كان مفتاح إسلامه كلمتين عظيمتين: الأولى قالها عن نفسه، "إني مؤتمن"، والثانية كانت من الصادق المصدوق حيث قال له: "إنك غليم معلم" ولقد كان لهاتين الكلمتين دور عظيم في حياته، وأصبح فيما بعد من أعيان علماء الصحابة -رضوان الله عليهم- ودخل عبدالله في ركب الإيمان، وهو يمخر بحار الشرك في قلعة الأصنام، فكان واحدًا من أولئك السابقين الذين مدحهم الله في قرآنه العظيم( ). قال عنه ابن حجر: "أحد السابقين الأولين، أسلم قديمًا، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا والمشاهد بعدها، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم وكان صاحب نعليه" ( ). أول من جهر بالقرآن الكريم: (1/208)
بالرغم من أن ابن مسعود كان حليفًا وليس له عشيرة تحميه، ومع أنه كان ضئيل الجسم, دقيق الساقين، فإن ذلك لم يحل دون ظهور شجاعته وقوة نفسه t, وله مواقف رائعة في ذلك, منها ذلك المشهد المثير في مكة، وإبان الدعوة وشدة وطأة قريش عليها، فلقد وقف على ملئهم وجهر بالقرآن، فقرع به أسماعهم المقفلة وقلوبهم المغلَّفة( ) فكان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة: اجتمع يومًا أصحاب رسول الله فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني فإن الله سيمنعني. قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ: ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) رافعا بها صوته ( الرَّحْمَنُ ` عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) قال: ثم استقبلها يقرؤها، قال: فتأملوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد؟ قال: ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه فجعلوا يضربونه في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها، قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون( ). وبهذا كان عبد الله بن مسعود أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا غرو أن هذا العمل الذي قام به عبد الله يعتبر تحديًّا عمليًّا لقريش, التي ما كانت لتتحمل مثل هذا الموقف، ويلاحظ جرأة عبد الله عليهم بعد هذه التجربة على الرغم مما أصابه من أذى( ). 8- خالد بن سعيد بن العاص t: (1/209)
كان إسلام خالد قديمًا، لرؤيا رآها عند أول ظهور النبي صلى الله عليه وسلم, إذ رأى كأنه وقف على شفير النار، وهناك من يدفعه فيها, والرسول يلتزمه لئلا يقع، ففزع من نومه، معتقدًا أن هذه الرؤيا حق، فقصها على أبي بكر الصديق، فقال له: أُريد بك خيرًا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، فذهب إليه فأسلم، وأخفى إسلامه خوفًا من أبيه، لكن أباه علم لما رأى كثرة تغيبه عنه، فبعث إخوته الذين لم يكونوا قد أسلموا بعد في طلبه، فجيء به، فأنبه وضربه بمقرعة أو عصا كانت في يده حتى كسرها على رأسه، ثم حبسه بمكة, ومنع إخوته من الكلام معه، وحذرهم من عمله، ثم ضيق عليه الخناق فأجاعه, وقطع عنه الماء ثلاثة أيام، وهو صابر محتسب، ثم قال له أبوه: والله لأمنعنك القوت، فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكرمه، ويكون معه، ثم رأى أن يهاجر إلى الحبشة مع من هاجر إليها من المسلمين في المرة الثانية( ). 9- عثمان بن مظعون t: لما أسلم عدا عليه قومه بنو جمح فآذوه، وكان أشدهم عليه وأكثرهم إيذاء له أمية بن خلف؛ ولذلك قال بعد أن خرج إلى الحبشة يعاتبه( ): أأخرجتني من بطن مكة آمنًا وأسكنتني في صرح بيضاء تقذع تريش نبالاً لا يواتيك ريشها وتبري نبالاً ريشها لك أجمع وحاربت أقواما كرامًا أعزة وأهلكت أقوامًا بهم كنت تفزع ستعلم إن نابتك يومًا ملمة وأسلمك الأوباش ما كانت تصنع (1/210)
وبقي عثمان بن مظعون فترة في الحبشة، لكنه لم يلبث أن عاد منها ضمن من عاد من المسلمين في المرة الأولى، ولم يستطع أن يدخل مكة إلا بجوار من الوليد بن المغيرة، حيث ظل يغدو في جواره آمنًا مطمئنًا، فلما رأى ما يصيب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من البلاء, وما هو فيه من العافية أنكر ذلك على نفسه، وقال: والله إن غدوي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي,( ) فذهب إلى الوليد بن المغيرة وقال له: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك، فقال: لم يا ابن أخي؟ فلعلك أوذيت، أو انتهكت، قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله تعالى ولا أريد أن أستجير بغيره، قال: فانطلق إلى المسجد فاردد علي جواري علانية، كما أجرتك علانية، فانطلقا إلى المسجد فرد عليه جواره أمام الناس, ثم انصرف عثمان إلى مجلس من مجالس قريش فجلس معهم، وفيهم لبيد بن ربيعة( ) الشاعر ينشدهم فقال لبيد: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) فقال عثمان: صدقت, واستمر لبيد في إنشاده فقال: (وكل نعيم لا محالة زائل) فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، قال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله، فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فاخضرت، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يا ابن أخي إن عينك لغنية عما أصابها، ولقد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان: والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس، ثم عرض عليه الوليد الجوار مرة أخرى فرفض( ). وهذا يدل على مدى قوة إيمانه t، ورغبته في الأجر، والمثوبة عند الله, ولذلك (1/211)
لما مات, رأت امرأة في المنام أن له عينًا تجري, فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال:"ذلك عمله"( ). وغير ذلك من الصحابة الكرام تعرض للتعذيب، وهكذا نرى أولئك الرهط من الشباب القرشي, قد أقبلوا على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم واستجابوا لها والتفوا حول صاحبها، على الرغم من مواقف آبائهم وذويهم وأقربائهم المتشددة تجاههم، فضحوا بكل ما كانوا يتمتعون به من امتيازات قبل دخولهم في الإسلام، وتعرضوا للفتنة رغبة فيما عند الله تعالى من الأجر والثواب، وتحملوا أذى كثيرًا، وهذا فعل الإيمان في النفوس، عندما يخالطها فتستهين بكل ما يصيبها من عنت وحرمان, إذا كان ذلك يؤدي إلى الفوز برضا الله تعالى وجنته. هذا, ولم يكن التعذيب والأذى مقصورًا على رجال المسلمين دون نسائهم، وإنما طال النساء أيضا قسط كبير من الأذى والعنت بسبب إسلامهن كسمية بنت خياط وفاطمة بنت الخطاب ولبيبة جارية بني المؤمل، وزنيرة الرومية، والنهدية وابنتها، وأم عبيس، وحمامة أم بلال وغيرهن( ). خامسًا: حكمة الكفّ عن القتال في مكة واهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالبناء الداخلي: كان المسلمون يرغبون في الدفاع عن أنفسهم, ويبدو أن الموقف السلمي أغاظ بعضهم وخاصة الشباب منهم، وقد أتى عبد الرحمن بن عوف وأصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة قال: "إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم"( ) وتعرض بعض الباحثين للحكمة الربانية في عدم فرضية القتال في مكة ومن هؤلاء الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- فقد قال: لا نجزم بما نتوصل إليه لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة، ونفرض أسبابًا وعللاً قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية، أو وقد تكون. (1/212)
ذلك أن شأن المؤمن أمام أي تكليف, أو أي حكم من أحكام الشريعة, هو التسليم المطلق؛ لأن الله سبحانه هو العليم الخبير، وإنما نقول هذه الحكمة والأسباب من باب الاجتهاد, وعلى أنه مجرد احتمال؛ لأنه لا يعلم الحقيقة إلا الله، ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح( ). ومن هذه الأسباب والحكم والعلل بإيجاز: 1- أن الكف عن القتال في مكة, ربما لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة، ومن أهداف التربية في مثل هذه البيئة: تربية الفرد العربي على الصبر, على ما لا يصبر عليه عادة, من الضيم حين يقع عليه أو على من يلوذون به, ليخلص من شخصه ويتجرد من ذاته، فلا يندفع لأول مؤثر، ولا يهتاج لأول مهيج, ومن ثم يتم الاعتدال في طبيعته وحركته، ثم تربيته على أن يتبع نظام المجتمع الجديد بأوامر القيادة الجديدة، حيث لا يتصرف إلا وفق ما تأمره -مهما يكن مخالفًا لمألوفه وعادته- وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي المسلم لإنشاء (المجتمع المسلم). 2- وربما كان ذلك أيضا؛ لأن الدعوة السلمية, أشد أثرًا وأنفذ في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال معها -في مثل هذه الفترة- إلى زيادة العناد, ونشأة ثارات دموية جديدة, كثارات العرب المعروفة أمثال داحس والغبراء وحرب البسوس، وحينئذ يتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات, تنسى معها فكرته الأساسية. (1/213)
3- وربما كان ذلك أيضًا اجتنابًا لإنشاء معركة ومقتلة داخل كل بيت، فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة هي التي تعذب المؤمنين، وإنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد, ومعنى الإذن بالقتال، في مثل هذه البيئة، أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت ثم يقال: هذا هو الإسلام، ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال، فقد كانت دعاية قريش في المواسم، إن محمدًا يفرق بين الوالد وولده، فوق تفريقه لقومه وعشيرته, فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي؟ 4- وربما كان ذلك أيضًا, لما يعلمه الله, من أن كثيرًا من المعاندين الذين يفتنون المسلمين عن دينهم ويعذبونهم, هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته، ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟ 5- وربما كان ذلك أيضًا؛ لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع, وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس فيهم، وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة في هذه البيئة، فابن الدُّغُنَّة( ) لم يرض أن يترك أبا بكر وهو رجل كريم يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عارًا على العرب، وعرض عليه جواره وحمايته، وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب. 6- وربما كان ذلك أيضًا لقلة عدد المسلمين حينئذ, وانحصارهم في مكة، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة أو بلغت ولكن بصورة متناثرة، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش، وبعض أبنائها، لترى ماذا يكون مصير الموقف, ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة، حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم، ويبقى الشرك ولا يقوم للإسلام في الأرض نظام، ولا يوجد له كيان واقعي، وهو دين جاء ليكون منهج حياة ونظام دنيا وآخرة. (1/214)
7- إنه لم تكن هناك ضرورة قاهرة ملحة، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال، ودفع الأذى؛ لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة, كان قائمًا ومحققًا وهو (وجود الدعوة), ووجودها في شخص الداعية محمد صلى الله عليه وسلم، وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع، ولذلك لا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغ الدعوة وإعلانها في ندوات قريش حول الكعبة، ومن فوق جبل الصفا، وفي الاجتماعات العامة، ولا يجرؤ أحد على سجنه أو قتله، أو أن يفرض عليه كلامًا بعينه يقوله. إن هذه الاعتبارات كلها -فيما نحسب- كانت بعض ما اقتضت حكمة الله - معه- أن يأمر المسلمين بكف أيديهم, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة، لتتم تربيتهم وإعدادهم، وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة، في الوقت المناسب، وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها، فلا يكون لذواتهم فيها حظ، لتكن خالصة وفي سبيل الله( ). وقد تعلم الصحابة من القرآن الكريم فقه المصالح والمفاسد، وكيفية التعامل مع هذا الفقه من خلال الواقع, قال تعالى: ( وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [الأنعام: 108]. (1/215)
وهكذا تعلم الصحابة رضي الله عنهم, أن المصلحة إن أدت إلى مفسدة أعظم تترك,( ) وفي هذا تهذيب أخلاقي، وسمو إيماني، وترفع عن مجاراة السفهاء الذين يجهلون الحقائق، وتخلو أفئدتهم من معرفة الله وتقديسه، وقد ذكر العلماء بأن الحكم باقٍ في الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة, وغير خاضع لسلطان الإسلام والمسلمين، وخيف أن يسب الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم, ولا دينهم, ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه فعل بمنزلة التحريض على المعصية، وهذا نوع من الموادعة, ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع( ). والناظر في الفترة المكية, والتي كانت ثلاثة عشر عامًا, كلها في تربية وإعداد وغرس لمفاهيم لا إله إلا الله, يدرك ما لأهمية هذه العقيدة من شأن في عدم الاستعجال, واستباق الزمن، فالعقيدة بحاجة إلى غرس يتعهد بالرعاية والعناية والمداومة, بحيث لا يكون للعجلة والفوضى فيها نصيب، وما أجدر الدعاة إلى الله أن يقفوا أمام تربية المصطفى صلى الله عليه وسلم، لأصحابه على هذه العقيدة وقفة طويلة، فيأخذوا منها العبرة والأسوة؛ لأنه لا يقف في وجه الجاهلية أيًّا كانت قديمة أو حديثة أم مستقبلة, إلا رجال اختلطت قلوبهم ببشاشة العقيدة الربانية، وتعمقت جذور شجرة التوحيد في نفوسهم( ). (1/216)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه بضبط النفس والتحلي بالصبر، وكان يربي أصحابه على عينه, ويوجههم نحو توثيق الصلة بالله، والتقرب إليه بالعبادة، وقد نزلت الآيات في المرحلة المكية: ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ` قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ` نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ` أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) [المزمل: 1-4]. فقد أرشدت سورة المزمل الصحابة إلى حاجة الدعاة إلى قيام الليل، والدوام على الذكر، والتوكل على الله في جميع الأمور، وضرورة الصبر, ومع الصبر الهجر الجميل، والاستغفار بعد الأعمال الصالحة. كانت الآيات الأولى من سورة المزمل تأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصص شطرًا من الليل للصلاة، وقد خيره الله تعالى أن يقوم للصلاة نصف الليل, أو يزيد عليه, أو ينقص منه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه معه قريبًا من عام, حتى ورمت أقدامهم, فنزل التخفيف عنهم, بعد أن علم الله منهم اجتهادهم في طلب رضاه، وتشميرهم لتنفيذ أمره ومبتغاه، فرحمهم ربهم فخفف عنهم, فقال: ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [المزمل: 20]. (1/217)
كان امتحانهم في الفرش, ومقاومة النوم, ومألوفات النفس, لتربيتهم على المجاهدة، وتحريرهم من الخضوع لأهواء النفس، تمهيدًا لحمل زمام القيادة والتوجيه في عالمهم، إذ لابد من إعداد روحي عالٍ لهم، وقد اختارهم الله لحمل رسالته، وائتمنهم على دعوته، واتخذ منهم شهداء على الناس، فالعشرات من المؤمنين في هذه المرحلة التاريخية كانت أمامهم المهمات العظيمة في دعوة الناس إلى التوحيد، وتخليصهم من الشرك، وهي مهمة عظيمة يقدر على تنفيذها أولئك الذين: ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ). وقد وصف الله قيام الليل والصلاة فيه وقراءة القرآن ترتيلاً -أي مع البيان والتؤدة- بقوله: ( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً ) فهو أثبت أثرًا في النفس مع سكون الليل وهدأة الخلق، حيث تخلو من شواغلها وتفرغ للذكر، والمناجاة بعيدًا عن علائق الدنيا وشواغل النهار, وبذلك يتحقق الاستعداد اللازم لتلقي الوحي الإلهي ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً ), والقول الثقيل هو القرآن الكريم، وقد ظهر أثر هذا الإعداد الدقيق للمسلمين الأوائل في قدرتهم على تحمل أعباء الجهاد وإنشاء الدولة بالمدينة, وفي إخلاصهم العميق للإسلام وتضحيتهم من أجل إقامته في دنيا الناس ونشره بين العالمين( ). (1/218)
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مهتمًا بجبهته الداخلية, وحريصًا على تعبئة أصحابه بالعقيدة القوية التي لا تتزعزع ولا تلين، وكان هذا مبعثا لروح معنوية مرتفعة وقوية للدفاع وتحمل العذاب والأذى في سبيل الدعوة، وأصبحت الجماعة الأولى وحدة متماسكة لا تؤثر فيها حملات العدو النفسية، ولا تجد لها مكانا في هذه الجماعة عن طريق المؤاخاة بين المسلمين, فقد أصبحت رابطة الأخوة في الله تزيد على رابطة الدم والنسب, وتفضلها في الدين الإسلامي، وتعايش الرعيل الأول بمعاني الأخوة الرفيعة القائمة على الحب والمودة والإيثار، وكانت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تفعل فعلها في نفوس الصحابة, فكان صلى الله عليه وسلم يحث المسلمين على الأخوة والترابط والتعاون وتفريج الكرب لا لشيء إلا لرضى الله سبحانه, لا نظير خدمة مقابلة أو نحو ذلك، وإنما يفعل المسلم ذلك ابتغاء وجه الله وحده، وهذه المبادئ هي سر استمرار الأخوة الإسلامية, وتماسك المجتمع الإسلامي( ), وبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه سبحانه وتعالى: "المتحابون في جلالي، لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء"( ). وهكذا أصبحت الأخوة الصادقة من مقاييس الأعمال، وأصبحت المحبة في الله من أفضل الأعمال، ولها أفضل الدرجات عند الله, وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين من أن تهون عليهم هذه الرابطة، ووضع لهم أساس الحفاظ عليها, فقال لهم: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا"( ). (1/219)
واستعان النبي صلى الله عليه وسلم في ربط المجتمع الداخلي, وتوحيد جبهته لتكون قوية في مواجهة الحرب النفسية الموجهة ضدها، بالمساواة بين أفراد هذه الجبهة وإعطائهم الحرية, فهم لا يدخلون إلى هذا المجتمع إلا بالحرية، ثم كانت لهم في داخله حرية الرأي, وحرية التعبير والمشورة، أتى محمد صلى الله عليه وسلم بمبدأ المساواة بين جميع الناس، الحاكم والمحكوم, والغني والفقير، وبين جميع الطبقات، وقد كان لهذا المبدأ العظيم أكبر الأثر في نفوس أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلهم يتحابون ويتماسكون ويفتدون بأرواحهم ويدافعون عنه بكل ما أوتوا من قوة وعزيمة, فهو صلى الله عليه وسلم لم يقر تفاوتًا بين البشر, بسبب مولد أو أصل, أو حسب أو نسب أو وراثة، أو لون. والاختلاف في الأنساب والأجناس والألوان، لا يؤدي إلى اختلاف في الحقوق والواجبات أو العبادات، فالكل أمام الله سواسية، وعندما طلب أشراف مكة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم مجلسًا غير مجلس العبيد والضعفاء, حتى لا يضمهم وإياهم مجلس واحد, بَيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن جميع الناس متساوون في تلقي الوحي والهداية، ورفض كفار مكة وسادتها في ذلك الوقت أن يجلسوا مع العبيد, ومن يعتبرونهم ضعفاء أذلاء من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم, فنزل القرآن الكريم بقوله تعالى: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ` وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ (1/220)
بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) [الكهف: 28، 29] بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعرض عن ابن أم مكتوم الأعمى، منشغلاً بمحاورة بعض الأشراف، عاتبه الله أشد العتاب. وكان من أكبر أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في ربطه المجتمع الإسلامي وتوحيده، وتقويته للجبهة الداخلية, وجعلها قوية البنيان متماسكة، ما دعا إليه صلى الله عليه وسلم من التكافل المادي, والمعنوي بين المسلمين، ليعين منهم القوي الضعيف، وليعطف الغني على الفقير، ولم يترك صلى الله عليه وسلم ثغرة واحدة تنفذ منها الحرب النفسية إلى هذا الصف الإسلامي الأول, وأصبحت الجماعة الأولى صخرة عظيمة, تحطمت عليها كل الجهود والخطط التي بذلها زعماء مكة للقضاء على الدعوة( ). سادسًا: أثر القرآن الكريم في رفع معنويات الصحابة: كان للقرآن الكريم أثر عظيم في شد أزر المؤمنين من جانب, وتوعده الكفار بالعذاب من جانب آخر، مما كان له وقع القنابل على نفوسهم، وقد كان دفاع القرآن الكريم عن الصحابة يتمثل في نقطتين: الأولى: حث الرسول صلى الله عليه وسلم على رعايتهم وحسن مجالستهم واستقبالهم, ومعاتبته على بعض المواقف التي ترك فيها بعض الصحابة لانشغاله بأمر الدعوة أيضا. الثانية: التخفيف عن الصحابة بضرب الأمثلة والقصص لهم, من الأمم السابقة، وأنبيائها، وكيف لاقوا من قومهم الأذى، والعذاب, ليصبروا ويستخفوا بما يلاقون، وأيضًا بمدح بعض تصرفاتهم، ثم بوعدهم بالثواب والنعيم المقيم في الجنة، وكذلك بالتنديد بأعدائهم الذين كانوا يذيقونهم الألم والأذى( ). (1/221)
أما النقطة الأولى: حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في المسجد مع المستضعفين من أصحابه: خباب وعمار، وابن فكيهة يسار مولى صفوان بن أمية, وصهيب وأشباههم، فكانت قريش تهزأ بهم، وقال الكفار بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، ثم يقولون أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا بالهدى والحق، لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا( ). ورد الله سبحانه وتعالى على استهز | |
| | | البخاري مشرف
عدد الرسائل : 203 تاريخ التسجيل : 03/12/2008
| موضوع: رد: السيرة النبوية المطهرة الخميس مارس 25, 2010 9:32 pm | |
| على استهزاء هؤلاء الكفار مبينًا لهم أن رضا الله لبعض عباده، لا يتوقف على منزلته ولا مكانته بين الناس في الدنيا، كما يؤكد لرسوله صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم، حتى لا يتأثر بما يقوله الكفار، من محاولات الانتقاص من شأن هؤلاء الصحابة، ومبينًا له أيضًا مكانتهم فيقول الله تبارك وتعالى: ( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ` وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ` وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )[الأنعام:52-54]. وهكذا بين الله لرسوله شأن هؤلاء الصحابة وقيمتهم ومنزلتهم التي يجهلها أو يتجاهلها الكفار، ويحاولون أن ينالوا منها، بل ويزيد الله على ذلك أن ينهى الرسول عن طردهم، كما يأمر بحسن تحيتهم، ويأمره أيضا أن يبشرهم بأن الله سبحانه، قد وعد بمغفرة ذنوبهم بعد توبتهم. (1/222)
كيف تكون الروح المعنوية لهؤلاء، كيف يجدون الأذى من الكفار بعد ذلك, إنهم يفرحون بهذا الأذى الذي وصلوا بسببه إلى هذه المنازل العظيمة( ). ثم نرى عتاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في آيات تتلى إلى يوم القيامة، وكان هذا العتاب في شأن رجل فقير أعمى من الصحابة, أعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، ولم يجبه على سؤاله لانشغاله بدعوة بعض أشراف مكة( ). فنزل قول الله تعالى: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى ` أَن جَاءَهُ الأعْمَى ` وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ` أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ` أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ` فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ` وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى ` وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى ` وَهُوَ يَخْشَى ` فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) [عبس: 1-10]. إنه لا مجال للامتيازات في دعوة الحق بسبب الحسب والنسب, أو المال والجاه، فهي إنما جاءت لتأصيل النظرة إلى الإنسان وبيان وحدة الأصل، وما تقتضيه من المساواة والتكافؤ، من هنا يمكن تعليل شدة أسلوب العتاب الذي وجهه الله تعالى لرسوله للاهتمام الكبير الذي أظهره لأبي بن خلف, على حساب استقباله لابن أم مكتوم الضعيف t, فابن أم مكتوم يرجح في ميزان الحق على البلايين من أمثال أبي بن خلف( ) لعنه الله. وكانت لهذه القصة دروس وعبر, استفاد منها الرعيل الأول، ومن جاء بعدهم من المسلمين ومن أهم هذه الدروس، الإقبال على المؤمنين, على الدعاة البلاغ, وليس عليهم الهداية، في قصة الأعمى دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلو لم يكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله لكتم هذه الحادثة، ولم يخبر الناس بها لما فيها من عتاب له صلى الله عليه وسلم ولو كان كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآيات وآيات قصة زيد وزينب بنت جحش( ), فعلى الدعاة تقديم أهل الخير والإيمان( ). (1/223)
أما النقطة الثانية: في دفاع القرآن الكريم عن الصحابة، فقد كانت بالتخفيف عنهم، وكانت أهم وسائل التخفيف بإظهار أن هذا الأذى الذي يلقونه لم يكن فريدًا من نوعه، وإنما حدث قبل ذلك مثله وأشد منه كانت القصص التي تتحدث عن حياة الرسل في القرآن الكريم من لدن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى -عليهم السلام- تثبيتًا للمسلمين ولروح التضحية والصبر فيهم من أجل الدين وبينت لهم القدوة الحسنة التي كانت في العصور القديمة من أنجح الوسائل في ميادين الإعلام والتربية والتعليم, والعلاقات العامة، فالقصص القرآني يحوي الكثير من العبر والحكم والأمثال. كان أيضًا من أساليب القرآن في تخفيفه عن الصحابة والدفاع عنهم أسلوبه في مدحهم ومدح أعمالهم في القرآن الكريم, يقرؤها الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما حدث مع الصديق لما أعتق سبع رقاب من الصحابة لينقذهم من الأذى والتعذيب، في نفس الوقت الذي يندد فيه بأمية بن خلف الذي كان يعذب بلال بن رباح، فالقرآن بدستوره الأخلاقي قد قدم قواعد الثواب والعقاب وشجع المؤمنين وحذر المخالفين، وحمل هذا التنديد مغزى عميقًا، فقد أنار الطريق للصحابة، وكان غمة وكربًا على نفوس الكفار المترددين، إذ جاء قول الله تعالى: ( فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ` لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأشْقَى ` الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ` وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى ` الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ` وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى ` إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى ` وَلَسَوْفَ يَرْضَى ) [الليل: 14-21]. (1/224)
وكذلك خلَّد القرآن ثبات وفد نصارى نجران على الإسلام, رغم استهزاء الكفار ومحاولاتهم لصدهم عن الإسلام، لذا نزلت فيهم بعض الآيات كما يذكر بعض المؤرخين( ) قال تعالى: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ` وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ` أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) [القصص: 52-54]. وكانت الآيات بعد ذلك تبشر الصحابة بالثواب العظيم وبالنعيم المقيم في الجنة، جزاء بما صبروا وما تحملوا من الأذى، وتشجيعًا لهم على الاستمرار في طريق الدعوة غير مبالين بما يسمعونه وما يلاقونه، فالنصر والغلبة لهم في النهاية كما بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، وكما بين لهم القرآن، كما بين القرآن الكريم في نفس الوقت مصير أعدائهم, كفار مكة قال: ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ` يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) [غافر: 51،52]. وبين فضل تمسكهم بالقرآن وإيمانهم به, قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ` لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) [فاطر: 29،30]. (1/225)
وبين سبحانه فضل التمسك بعبادته رغم الأذى والتعذيب، وبين جزاء الصبر على ذلك قال تعالى: ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ` قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [الزمر: 9،10]. وهكذا كان القرآن الكريم يخفف عن الصحابة ويدافع عنهم، ويحصنهم ضد الحرب النفسية، وبذلك لم تؤثر تلك الحملات ووسائل التعذيب على قلوب الصحابة؛ بفضل المنهج القرآني، والأساليب النبوية الحكيمة، لقد تحطمت كل أساليب المشركين في محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمام العقيدة الصحيحة, والمنهج السليم الذي تشرَّبه الرعيل الأول. سابعًا: أسلوب المفاوضات: اجتمع المشركون يومًا، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر، والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه، ولينظر ماذا يردُّ عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم،قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم: أن في قريش ساحرًا، وأن في قريش كاهنًا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى. (1/226)
أيها الرجل: إن كان إنما بك الحاجة, جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك - الباه - فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فرغت؟" قال: نعم، فقال رسول الله: ( حم ` تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ` كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) إلى أن بلغ ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: "لا" فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئًا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم ( ). وفي رواية ابن إسحاق: فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوا، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم( ). دروس وعبر وفوائد: أ- لم يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة جانبية حول أفضليته على أبيه وجده أو أفضليتهما عليه، ولو فعل ذلك لقضي الأمر دون أن يسمع عتبة شيئًا. ب- لم يخض صلى الله عليه وسلم معركة جانبية حول العروض المغرية، وغضبه الشخصي لهذا الاتهام، إنما ترك ذلك كله لهدف أبعد، وترك عقبة يعرض كل ما عنده، وبلغ من أدبه صلى الله عليه وسلم أن قال: "أفرغت يا أبا الوليد؟" فقال: نعم( ). (1/227)
ج- كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاسمًا، إن اختياره لهذه الآيات لدليل على حكمته، وقد تناولت الآيات الكريمة قضايا رئيسية منها: إن هذا القرآن تنزيل من الله، بيان موقف الكافرين وإعراضهم، بيان مهمة الرسول, وأنه بشر، بيان أن الخالق واحد هو الله, وأنه خالق السماوات والأرض، بيان تكذيب الأمم السابقة وما أصابها، وإنذار قريش صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود( ). (1/228)
د- خطورة المال، والجاه، والنساء على الدعاة، فكم سقط من الدعاة على الطريق تحت بريق المال، وكم عرضت الآلاف من الأموال على الدعاة ليكفوا عن دعوتهم، والذين ثبتوا أمام إغراء المال هم المقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وخطورة الجاه واضحة؛ لأن الشيطان في هذا المجال يزين ويغوي بطرق أكبر وأمكر وأفجر. والداعية الرباني هو الذي يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في حركته وأقواله وأفعاله, ولا ينسى الهدف الذي عاش له ويموت من أجله: ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ` لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) [الأنعام: 162،163]، وأما النساء فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت فتنة على أمتي أضر على الرجال من النساء"( ) سواء كانت زوجة تثبط الهمة عن الدعوة والجهاد، أو تسليط بعض الفاجرات عليه ليسقطنه في شباكهن، أو في تهيئة أجواء البغي والإثم والمجون ليرتادها خطوة بعد خطوة، أيًّا كانت, فإنها فتنة عظيمة في الدين, فها هي قريش تعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءها، يختار عشرًا منهن، أجملهن وأحسنهن يكن زوجات له, إن كان عاجزًا عن الزواج من أكثر من واحدة، إن خطر المرأة حين لا تستقيم على منهج الله, أشد من خطر السيف المصلت على الرقاب( ), فعلى الدعاة أن يقتدوا بسيد الخلق, ويتذكروا دائما قول يوسف عليه السلام: ( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ` فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) [يوسف:33-34]. (1/229)
هـ- تأثر عتبة من موقف النبي صلى الله عليه وسلم: وكان هذا التأثير واضحًا لدرجة أن أصحابه أقسموا على ذلك التأثير قبل أن يخبرهم، فبعد أن كان العدو ينوي القضاء على الدعوة، إذا به يدعو لعكس ذلك, فيطلب من قريش أن تخلي بين محمد صلى الله عليه وسلم وما يريد( ). و- استمع الصحابة لما حدث بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عتبة، وكيف رفض حبيبهم صلى الله عليه وسلم كل عروضه المغرية، فكان ذلك درسًا تربويًّا خالط أحشاءهم، تعلموا منه الثبات على المبدأ، والتمسك بالعقيدة، ووضع المغريات تحت أقدام الدعاة. ز- تعلم الصحابة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الحلم ورحابة الصدر, فقد استمع صلى الله عليه وسلم إلى ترهات عتبة بن ربيعة ونيله منه وقوله عنه: (إن في قريش ساحرًًا)، و(إن في قريش كاهنًا)، (ما رأينا سخلة أشأم على قومك منك)، و(إن كان بك رَئِيٌّ من الجن) فقد أعرض عنه صلى الله عليه وسلم وأغض عن هذا السباب بحيث لا يصرفه ذلك دعوته وتبليغه إياها لسيد بني عبد شمس, فقد كانت كل كلمة تصدر من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم مبدأ يحتذى، وكل تصرف دينًا يتبع، وكل إغضاء خلقًا يتأسى به( ). (1/230)
وذكرت بعض كتب السيرة بأن قيادات مكة دخلوا في مفاوضات بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرضوا عليه إغراءات تلين أمامها القلوب البشرية ممن أراد الدنيا, وطمع في مغانمها إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ موقفا حاسمًا في وجه الباطل دون مراوغة أو مداهنة, أو دخول في دهاء سياسي, أو محاولة وجود رابطة استعطاف أو استلطاف مع زعماء قريش( )؛ لأن قضية العقيدة تقوم على الوضوح والصراحة والبيان بعيدة عن المداهنة والتنازل؛ ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بي ما تقولون, ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوا علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم" ( ). بهذا الموقف الإيماني الثابت رجع كيدهم في نحورهم، وثبتت قضية من أخطر قضايا العقيدة الإسلامية وهي خلوص العقيدة من أي شائبة غريبة عنها سواء في جوهرها أو في الوسيلة الموصلة إليها( ). لكم دينكم ولي دين ولما رأى المشركون صلابة المسلمين واستعلاءهم بدينهم, ورفعة نفوسهم فوق كل باطل، ولما بدأت خطوط اليأس في نفوسهم من أن المسلمين يستحيل رجوعهم عن دينهم سلكوا مهزلة أخرى من مهازلهم الدالة على طيش أحلامهم, ورعونتهم الحمقاء، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الأسود بن عبد المطلب, والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد, وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه" ( ). فأنزل الله فيهم: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ` لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ` وَلاَ (1/231)
أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ` وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ` وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ` لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) [الكافرون]. ومثل هذه السورة آيات أخرى تشابهها في إعلان البراء من الكفر وأهله, مثل قوله تعالى: ( وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ) [يونس: 41]. وقوله تعالى ( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ` قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) [الأنعام: 56،57]. (1/232)
ولقد بينت سورة الكافرون بأن طريق الحق واحد لا عوج فيه، ولا فجاج له، إنه العبادة الخالصة لله وحده رب العالمين، فنزلت هذه السورة على الرسول صلى الله عليه وسلم للمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة، ومنهج ومنهج، وتصور وتصور، وطريق وطريق، نعم نزلت نفيًا بعد نفي, وجزمًا بعد جزم، وتوكيدًا بعد توكيد، بأنه لا لقاء بين الحق والباطل، ولا اجتماع بين النور والظلام، فالاختلاف جوهري كامل يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق، والأمر لا يحتاج إلى مداهنة أو مراوغة، نعم فالأمر هنا ليس مصلحة ذاتية، ولا رغبة عابرة، ولا سمًّا في عسل، وليس الدين لله والوطن للجميع كما تزعم الجاهلية المعاصرة، ويدعي المنافقون والمستغربون الذين يتبعون الضالين والمغضوب عليهم، ولا كما يعتقد الملحدون أعداء الله سبحانه في كل مكان، كان الرد حاسمًا على زعماء قريش المشركين، ولا مساومة، ولا مشابهة، ولا حلول وسط، ولا ترضيات شخصية، فإن الجاهلية جاهلية والإسلام إسلام، في كل زمان ومكان، والفارق بينهم بعيد كالفرق بين التبر والتراب، والسبيل الوحيد هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته عبادة وحكما، وإلا فهي البراءة التامة والمفاصلة الكاملة والحسم الصريح بين الحق والباطل في كل زمان ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )( ). (1/233)
وجاء وفد آخر بعد فشل الوفد السابق، يتكون من عبد الله بن أبي أمية، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس، والعاص بن عامر( ) جاء ليقدم عرضًا آخر للتنازل عن بعض ما في القرآن، فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزع من القرآن ما يغيظهم من ذم آلهتهم، فأنزل الله لهم جوابًا حاسمًا، قال تعالى: ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) [يونس: 15]. (1/234) | |
| | | | السيرة النبوية المطهرة | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |