خليج عدن - القدس العربي - أحمد عمر بن فريد
ربما انه من ضمن العوامل الرئيسية للمكانة الكبيرة التي تحتلها معاني الوحدة في الوجدان العربي الشعبي يعود في حقيقته إلى جملة الإخفاقات والانتكاسات الرسمية التي هيمنت على المسرح السياسي العربي خلال العقود الطويلة الماضية، ويبدو أيضا ان هذا المعنى العظيم قد استغل بطريقة ابتزازية كبيرة من قبل الكثير من الزعامات والنخب العربية لتبرير فشلها الذريع في إدارة الأزمات الداخلية من جهة والعربية من جهة أخرى.
لكن الزعيم العربي الخالد جمال عبدالناصر كان أكثر الزعامات العربية جرأة في تعامله مع ملف ( الوحدة ) بواقعية متناهية وحس وطني مسؤول، وذلك حينما أدرك بما يملكه من مقومات القيادة وبعد النظر، ان الوحدة التي قامت مع سورية الشقيقة، قد انحرفت عن مسارها الطبيعي وأهدافها الرئيسية، واتجهت صوب مسارات أخرى من شأنها إفراز سلبيات كثيرة مهددة للعلاقات الأخوية مابين الشعبين في مصر وسورية، فكان موقفه التاريخي المتمثل في قرار فك الارتباط الوحدوي الرسمي مقابل الإبقاء على الارتباط الأخوي الشعبي مابين الشعبين الشقيقين في مصر وسورية.
أقول هذا الكلام في ظل تزاحم مقالات عربية، تحدث فيها أصحابها بكثير من الحماسة وقليل من الموضوعية إزاء ما يحدث حاليا في ( الجنوب ) من حراك سياسي سلمي، يعكس رغبة شعبية جامحة لدى الجنوبيين في فك الارتباط واستعادة دولتهم الوطنية السابقة، اذ بدا واضحا ان جل تلك المقالات ـ للأسف الشديد ـ كانت بعيدة كل البعد عن الواقع، وعن حقيقة ما حدث ويحدث في الجنوب منذ ان عمدت الوحدة بالدماء صيف 1994 حتى يومنا هذا .
وعلى هذا الأساس يبدو ان طرح الكثير من القضايا التي تتنافى بالمطلق مع قيم الوحدة ومعانيها السامية من الناحية النظرية المثالية، ستبدو صادمة للذين يتحدثون من منطلق عاطفي بحت ولن تكون كذلك للذين يدافعون عن الوحدة من زاوية غير موضوعية تتعلق بحسابات شخصية أخرى متعددة الجوانب والأغراض، او للذين يعلمون علم اليقين ان الوحدة اليمنية قد انحرفت عن مسارها الصحيح وأنها قد تحولت الى احتلال صريح وواضح للجنوب أرضا وإنسانا.
وعلى أية حال ... وحتى لا نتهم نحن أيضا بأننا غير موضوعيين في طرحنا، او اننا لا نمثل الا أنفسنا، وحتى لا نقع في مرمى نيران التهم العربية الجاهزة والمعلبة ذات الصلاحية المنتهية، فإننا نحيل الباحثين عن الحقيقة إلى ارض الواقع في (الجنوب) ونحثهم على ضرورة تقصي الحقائق من منابعها الأصلية وليس من فروعها، بالذهاب إلى أهل الشأن في محافظات الجنوب والتحدث اليهم والتعرف على حقيقة مشاعرهم وما حدث ويحدث لهم في ظل هذه الوحدة التي تبدو للبعض من الإخوة العرب كصنم مقدس لا يجوز المساس به.
لكنني من جانب آخر أود الإشارة إلى خطورة ما يحدث حاليا تجاه ابناء الجنوب باسم الدفاع عن الوحدة، ولعل القارئ الكريم لن يكون بمقدوره تحمل حقيقة مشهد واحد من ضمن المشاهد المؤلمة التي تحدث اليوم في الجنوب من قبل قوات الأمن وجنود الوحدة البواسل، وهو مشهد ضرب المواطن محمد حسين يحيى اليافعي من قبل قوات الأمن (بأعقاب البنادق) حتى الموت!! .. قبل اسبوع واحد فقط من كتابة هذا المقال، وعلينا ان نسأل بعد ذلك المدافعين عن هذه الوحدة إجراء عملية تفتيش دقيقة في سجل الاضطهاد والبطش الإسرائيلي للشعب الفلسطيني لعلهم يجدون حادثة مماثلة تم فيها قتل مواطن بمثل هذه الطريقة الوحشية التي تتنافى مع ابسط القيم والعادات العربية الأصيلة.
هذه حادثة واحدة فقط، من ضمن مئات الحوادث الأخرى التي قتل فيها أبناء الجنوب ظلما وعدوانا من قبل جنود السلطة في صنعاء، وهي حوادث تبدو في حلقة جديدة ضمن حلقات الحرب ضد الجنوب، التي دشنت حلقاتها بتقويض كامل البنية البشرية بكافة محاورها ـ السياسيةـ الإدارية ـ العسكرية ـ الأمنية والتجارية لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
فان كانت الوحدة تجيز ان يفعل بنا هكذا وان يتم قتلنا باسم الوحدة بمثل هذه الطرق الوحشية غير الإنسانية... فمن حقنا ان نقول لها لا وألف لا .. ومن حق الذين يعبدون الوحدة لأسبابهم الخاصة ان ينعتون بما شاءوا وبما تجود به قرائحهم وبما تمتلئ به قواميسهم من نعوت أكل عليها الدهر وشرب.