وأما الفرق بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي فالجواب عليه في نقاط :
الأولى : أن مصطلح التفسير بالمأثور مصطلح حادث ، والمصطلحات يجب أن يدقق فيها أثناء وضعها وأثناء فهمها ، وعندما يدخل الخلل في وضع المصطلح أو فهمه يحدث الاضطراب في الفهم وفي التطبيق ولا تنضبط المسائل كما سيأتي.
الثانية : التفسير بالمأثور: هو ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم- وعن صحابته وعن التابعين وعن تابعيهم ممن عُرفوا بالتفسير ، وكانت لهم آراء مستقلة مبنية على اجتهادهم.
ولا شك أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إن صح السند إليه هو المقدم ، ثم ما صح عن صحابته رضي الله عنهم. وقد حرص السيوطي رحمه الله على جمع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة فقط دون أن يكون فيه شيء من أقوال التابعين في كتابه المفقود (ترجمان القرآن) وقد تم كتابه ذاك في خمسة مجلدات.
قال السيوطي في مقدمة كتابه قطف الأزهار
وبعد فإن الله سبحانه ، وله الحمد قد منَّ عليَّ بالنظر في علوم القرآن وحقائقه ، وتتبع أسراره ودقائقه ، حتى صنفت في تعليقاته كتباً شتى ، منها التفسير الملقب (ترجمان القرآن) وهو الوارد بالإسناد المتصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين شاهدوه وتلقوا منه الوحي والتنزيل وسمعوا منه التفسير والتأويل ، وقد تم –ولله الحمد- في خمس مجلدات ، وهو مستوعب لغالب آيات القرآن من غير أن أذكر فيه شيئاً عن التابعين ، ولا من بعدهم.
وهذا لعمري هو التفسير – ولا زال الكلام للسيوطي – فإن الكلام في معاني القرآن ممن لم ينزل عليه ولا سمع من المنزل إليه ، إنما هو رأي محض ، فإن كان موافقاً للقواعد فهو التأويل ، وإن كان خرج عنها ، وأخطأ المراد ، فتحريف وتبديل... فإذن الواجب الاقتصار في التفسير على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فإن في ذلك كفاية ومقنعاً.
ومن زعم أنه يأتي بأحسن مما أتوا به ، فإنه متهم في دينه ، مخدوع في عقله ، نعم يبقى النظر في الترجيح إذا اختلفت الرواية عن الصحابة ، وذلك غير ممتنع عن المتأهل لذلك ، أما إحداث قول زائد على ما ورد عنهم فلا ، ولا كرامة.
ولما كان هذا التفسير المشار إليه نقلاً محضاً ، ليس فيه إعراب ، ولا سر بياني ، ولا نكتة بديعية ، ولا استنباط حكم ، إلا نادراً ، أردفته بكتب في ذلك..)أهـ.
ثم أشار بعد ذلك إلى كتبه : الإتقان ، ولباب النقول في أسباب النزول ، والإكليل في استنباط التنزيل ، وغيرها. ولم يشر إلى كتابه (الدر المنثور) وهذا يدل على أنه لم يؤلفه بعدُ حين كتب ذلك الكتاب ، أو أنه لم يرد الاستقصاء عندما ذكر كتبه بدليل قوله
حتى صنفتُ في تعليقاته كتباً شتى ، منها التفسير الملقب (ترجمان القرآن) ).
وقد حدثني أحد الإخوة أنه عثر على نسخة كاملة من هذا التفسير (ترجمان القرآن) ، في تركيا قبل مدة يسيرة ، ولكنه حدث له حادث حرمه منها ، ولا زلت متحسراً على ذلك ، إن كان صادقاً فيما ذكر ولا أحسبه إلا كذلك !!
ثم يأتي بعد ذلك ما روي عن التابعين ، وعن أتباعهم رحمهم الله جميعاً ، والسبب في قبول رواياتهم معروف ، ومذكور في كتب أهل العلم ، وقد درس الدكتور محمد الخضيري تفسير التابعين دراسة جيدة فلتراجع وهي بعنوان (تفسير التابعين- عرض ودراسة مقارنة).
ولكنه لا يرتبط بالتفسير بالمأثور حكم من حيث القبول والرد ، بل يعتمد ذلك على صحة النقل ، فما صح قبل ، وما لم يصح لم يقبل.
وهنا ينتهي الحديث عن التفسير بالماثور. ولا يتعدى الحديث فيه إلى جعله قسيماً للتفسير بالرأي ، فهنا مكمن الخلل!!
الثالثة : أما التفسير بالرأي هو أن يفسر المفسر القرآن باجتهاده ورأيه ، بناء على ضوابط وقواعد معروفة ذكرها أهل العلم ، وقد ذكرتِ في سؤالك أن التفسير بالرأي المذموم غير مقصود في سؤالك وفقك الله ، فلا داعي للتنصيص على إن المقصود بالحديث هنا هو الرأي المقبول.
فيدخل فيه تفسير الصحابي ، وتفسير التابعي ، ومن بعدهم إلى زمننا هذا.
فإذاً التفسير بالمأثور قد يكون بالرأي ، وينسب إلى من فسره ، سواء كان من الصحابة أو من التابعين ، أو من بعدهم.
فالمسألة اصطلاحية فحسب ، أراد العلماء أن ييسروا التقسيمات على طلاب العلم ، لدراسة تاريخ التفسير ، وكيف تطور ، ولكن حدث هذا الخلط غير المقصود ، فالله المستعان. فأصبح الخطأ شائعاً عند المتأخرين ، ينقله بعضهم عن بعض دون تمحيص ، وهو أن يقسم التفسير إلى قسمين:
- تفسير بالمأثور.
- وتفسير بالرأي.
وقسموا كتب التفسير إلى:
- كتب التفسير بالأثر.
- وكتب التفسير بالرأي.
وممن يفهم من كلامه مثل هذا التقسيم الطاهر بن عاشور رحمه الله ، حيث يقول في التحرير والتنوير 1/32-33: (أما الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب ألا يعدو ما هو مأثور ، فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها ، ولم يضبطوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر.
- فإن أرادوا به ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير بعض آيات إن كان مروياً بسند مقبول من صحيح أو حسن ، فإذا التزموا هذا الظن بهم فقد ضيقوا سعة معاني القرآن ، وينابيع ما يستنبط من علومه ، وناقضوا أنفسهم فيما دونوه من التفاسير ، وغلطوا سلفهم فيما تأولوه ، إذ لا ملجأ لهم من الاعتراف بأن أئمة المسلمين من الصحابة فمن بعدهم لم يقصروا أنفسهم على أن يرووا ما بلغهم من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأل عمر بن الخطاب أهل العلم عن معاني آيات كثيرة ولم يشترط عليهم أن يرووا له ما بلغهم في تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
- وإن أرادوا بالمأثور ما روي عن النبي وعن الصحابة خاصة وهو ما يظهر من صنيع السيوطي في تفسيره الدر المنثور لم يتسع ذلك المضيق إلا قليلاً ، ولم يغن عن أهل التفسير فتيلاً ، لأن أكثر الصحابة لا يؤثر عنهم في التفسير إلا شيء قليل سوى ما يروى عن علي بن أبي طالب على ما فيه من صحيح وضعيف وموضوع ...
- وإن ارادوا بالمأثور ما كان مروياً قبل تدوين التفاسير الأُوَل مثل ما يروى عن أصحاب ابن عباس وأصحاب ابن مسعود ، فقد أخذوا يفتحون الباب من شَقِّه ، ويقربون ما بعد من الشُّقَّة ، إذ لا محيص لهم من الاعتراف بأن التابعين قالوا أقوالاً في معاني القرآن لم يسندوها ولا ادعوا أنها محذوفة الأسانيد ، وقد اختلفت أقوالهم في معاني آيات كثيرة اختلافاً ينبئ إنباء واضحاً ، بأنهم إنما تأولوا تلك الآيات من أفهامهم ، كما يعلمه من له علم بأقوالهم ، وهي ثابتة في تفسير الطبري ونظرائه.
وقد التزم الطبري في تفسيره أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين ، لكنه لا يلبث في كل آية أن يتخطى ذلك إلى اختياره منها ، وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب ، وحسبه بذلك تجاوزاً لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور ، وذلك طريق ليس بنهج ، وقد سبقه إليه بقيُّ بن مَخْلَد ، ولم نقف على تفسيره، وشاكل الطبري فيه معاصروه ، مثل ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم، فلله درّ الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور،مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين ، والزجاج والرماني ممن بعدهم ، ثم من سلكوا طريقهم، مثل الزمخشري وابن عطية).
ومن الخطأ في هذا التقسيم أنهم يعدون تفسير جامع البيان - مثلاً – من كتب التفسير بالمأثور ، وهو قد جمع بين الآثار ، وبين النقد والترجيح ، أي الرأي على رأي من وضع المصطلح . فيخرجون من هذا بقولهم (وممن جمع بين التفسير بالأثر والتفسير بالرأي الإمام محمد بن جرير الطبري ...). ولو تبينوا الوجه ، لعلموا أن النوعين لا يكاد ينفك أحدهما عن الآخر ، وأن التفسير بالماثور ليس قسيماً للتفسير بالرأي. ولي وقفة إن شاء الله حول مسألة (تحرير المصطلحات) وخاصة في الدراسات القرآنية بإذن الله في مشاركة قادمة.
وقد قسموا التفسير بالمأثور إلى أربعة أقسام هي :
1- تفسير القـرآن بالقرآن.
2- تفسير القرآن بالسنة.
3- تفسير القرآن بأقوال الصحابة.
4- تفسير القرآن بأقوال التابعين.
ولو دققوا النظر لتبين لهم أن تفسير القرآن بالقرآن ينسب إلى من فسر به. فهو إن كان من الصحابي فهو من قبيل تفسيره بالرأي المنسوب للصحابي وكذلك للتابعي وهكذا. ولو محص النظر أكثر لكان كل تفسير بالرأي يعتبر بالنسبة لمن بعده تفسيراً بالمأثور. فكل محدث يعتبر قديماً ومأثوراً لمن بعده وهكذا. ولكنهم قصروه على هذه الأنواع الأربعة ، مع اختلافهم في كون تفسير التابعي حجة ، وليس في كونه مأثوراً أم غير مأثور ، إذ لم يكن مصطلح (المأثور) معروفاً ولا شائعاً عند المتقدمين.
وختاماً : فأنا أعجب من مؤلفين متخصصين معاصرين سارا على هذه الطريقة ، ولم يتنبها لهذه النقطة تنبهاً يدل على اتضاح الأمر لهما ، مع إن عنواني كتابيهما تدلان على أنهما دققا وحللا المصطلحات وهما :
1- فضيلة الشيخ الكريم الأستاذ الدكتور أحمد حسن فرحات في كتابه (في علوم القرآن – عرض ونقد وتحقيق). حيث يقول ص 251:( من خلال ما قدمناه يتبين لنا أن التفسير ينقسم إلى قسمين رئيسيين هما : التفسير بالمأثور ، والتفسير بالرأي. فالتفسير بالمأثور هو التفسير بالرواية ، وهو يشمل تفسير القرآن بالقرآن - وتفسير القرآن بالسنة النبوية - وتفسير القرآن بقول الصحابي - وتفسير القرآن بقول التابعي...)
2- فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور سليمان بن صالح القرعاوي في كتابه (مصطلحات علوم القرآن – عرض وتحليل واستدراك). حيث قال ص 264:( يقسم العلماء التفسير إلى نوعين رئيسين وهما : التفسير المأثور ، والتفسير بالرأي أو الدراية ، ومنهم من يضيف إليه التفسير الإشاري كنوع ثالث والذي يخرجه الكثير عن حيز التفسير كما سنرى فيما بعد).
فهما بالرغم من أنهما كتبا هذين الكتابين خلال العامين المنصرمين ، إلا أنهما لم يتعرضا لنقد هذا المصطلح ، وهذا التقسيم غير الدقيق. فأين النقد ، والتحليل ، والاستدراك إذاً ؟
وقد نقد الدكتور مساعد الطيار مصطلح التفسير بالمأثور في كتابه (فصول في أصول التفسير) ، وكتب بعد ذلك مقالة مفيدة في نقد مصطلح التفسير بالمأثور في مجلة البيان العدد (76) في شهر ذي الحجة عام 1414هـ. إن أردتِ وضعتها في الملتقى.